شماليات

مرحبا بكم في مدونتي المتواضعة التي أجمع فيها زبدة ما كتبته في الشبكة العنكبوتية كما وأنوه أن حقوق النشر والنقل محصورة لكاتب هذه القصص والمقالات ولا أحل أحدا أن ينقل شيء من دون ذكر المصدر والاشارة إلى كاتبها أبو ذر الشمالي

الاثنين، 29 فبراير 2016

طوق الياسمين


أعتاد وديع كلما سنحت له الفرصة بين الفينة والأخرى أن يخرج من مدرسته بعد انقضائها ويمر على بائع الياسمين ليشتري منه عقداً من الياسمين ويمضي به إلى أمه ويهديها إياه ، ومع علمه أنه عند عودته إلى المنزل فإن زوجة أبيه سوف تمطره بوابل من التعنيف والكلمات القاسية وقد يصل الأمر إلى حد الضرب ولاتكتفي بهذا فحسب بل إنها تنتظر عودة أبيه مساء إلى البيت لتألبه على وديع ليعاود الأب ضربه من جديد ، ومما يتبع هذا من حرمان من الطعام ومن اللعب مع ضرار ابن زوجة أبيه ، وما يسببه هذا من ألم نفسي وجسدي لوديع ولكنه مع كل هذا كان يغض الطرف ويذهب لأمه لإهدائها طوق الياسمين الذي كان يعلم أنها تحبه وتحب رائحته 0
لم يكن وديع يستطيع أن يمتنع عن زيارة أمه التي غادرت المنزل منذ ثلاث سنوات وحلت مكانها إمرأة أخرى جاءت ومعها ابنها ضرار ، كان وديع يراها مثالاً حياً للشر وما كان يستطيع أن يتقبل فكرة وجودها عوضاً عن أمه ، ومع أن أبيه أمره مراراً وتكراراً أن يعتبرها مكان أمه إلا أنه كان عاجزاً عن ذلك وقد عجز حتى أن يناديها ( يا أمي ) فلم يكن يستطيع أن يتخيل أن هناك إمرأة ممكن أن تحل مكان أمه ، ولأن لكل واحد حظ من اسمه فقد كان وديع وديعاً جداً وكان مستسلماً لجبروت زوجة أبيه ولم يكن حتى يستطيع أن ينفك من قسوتها أو أن يعترض على المحاباة الواضحة بينه وبين ابنها ضرار ومع كل هذا ومع أنه مسالم للغاية ولكنه لم يكن يسلم من كراهية زوجة أبيه له التي كانت ترى في عينيه صورة ضرتها والتي كانت تغار منها حتى مع عدم وجودها في المنزل
من أجل هذا وللخروج من قسوة الحياة التي يحياها فقد كان وديع يخرج من مدرسته كلما سنحت له الفرصة ويغدو ليشتري طوق الياسمين ويمضي به إلى أمه ويجلس عندها ساعة أو ساعتين تنسياه كل مآسي الحياة وعذاباتها صحيح أنه لم يكن يخبرها بما يعانيه ولم يكن يحدثها بما يلاقيه بل كان يتعمد الكذب عليها ويعطي لها انطباعاً أنه سعيد ومسرور في حياته وقد كان يفعل هذا لرغبته أن لا يدخل إليها الحزن والقلق ولإعتقاده أنها بذلك ستكون مسرورة ومطئنة عليه0
في هذه المرة بالذات كان خوف وديع من الذهاب لأمه كبير جداً فقد توعده أبوه أخر مرة أنه سيضربه ضرباً مبرحاً بالكرباج إذا عاود الذهاب إليها ، ولأنه يعرف أن أباه صادق بوعيده فقد بقي شهراً كاملاً ممتنع عن الذهاب ولكن حنينه لأمه قد زاد ولوعة الشوق قد تمكنت منه ولم يستطيع مكابدة الشوق والحنين وكذلك أمه قد اشتاقت له ولكلامه العذب ولنبرة صوته الحنون واشتاقت لشم رائحته حالها كحال كل الأمهات اللواتي يعشقن روائح أبنائهن ، وما كانت رائحة الياسمين التي تحبها أقل من عبق رائحة ابنها وديع الذي فارقته منذ ثلاث سنوات ويعيش الأن مع أبيه وزوجته وابنها ضرار0
ومما زاد من خشية وديع ومما سبب له الذعر أن أخاه المفترض ضرار قد رآه وهو يشتري عقد الياسمين فناداه وهو يبتسم ابتسامته الخبيثة المعهودة :
وديع ، تريد أن تذهب لعند أمك ، والله لأخبرن أمي بذلك0
وعبثاً حاول وديع أن يتوسل لضرار ويرجوه أن لا يخبر أمه ولكنه يعرف ضمنياً أن كل توسلاته ستذهب سدى وأن ضرار سيخبر أمه ، فضرار يتمتع دوماً عندما يشكو وديع ويشعر بنشوة سادية طفولية وهو يرى وديع يُضرب ضرباً مبرحاً على يد زوجة أبيه أو أبيه ، ويبتسم ابتسامة خبيثة وهو يستمع لصراخات وديع وتوسلاته لأبيه ولزوجة أبيه أن يكفا عن ضربه
مع كل هذا ومع أن وديع تردد قليلاً في الذهاب ولكن لوعة الشوق غلبته فقرر المضي في الذهاب لأمه 0
في طريقه إليها راح وديع يسترجع تلك الأيام الخوالي السعيدة التي كان يحياها مع والديه ، ورجعت به ذاكرته إلى أيام ضحكاته مع أمه وأبيه والحنان والدلال الذي كان يعيش فيه ، كان ما يزال يذكر حضنها الدافئ وكيف كان لا يرضى أن ينام إلا إذا كانت بجانبه تحكي له حكاية ما قبل النوم وكيف كانت تداعب شعره بيدها وكيف كان يغفو مطمئنا وهو يترنم بالإستماع لنبضات قلبها ، وماكان يتصور أن ينقلب الحال إلى ما آل إليه ، وأن تدير له الدنيا ظهرها قبل أن يشبع من إقبالها عليه ، ما كان يتخيل أن أبوه الذي كان يمطره بالحنان والمحبة سينقلب عليه هكذا و يتنكر له بعد كل العطف الذي كان يغدقه عليه ، لقد استطاع وديع برغم سنه الصغير أن يدرك أن أباه يفضل ضرار ابن زوجته عليه ، ولم تفلح مبررات أبيه وزوجته بأنهما إنما يقسوان عليه من أجل تربيته ولمصلحته ، فالواقع غير ذلك ، راح ربيع يتذكر كيف أن أباه انهال عليه بالضرب لأنه أضاع مسطرته في المدرسة وبعد عدة أيام اكتفى بأن ابتسم لضرار عندما أضاع حقيبة المدرسة ، وكيف أن اللعب لا تشترى إلا لضرار بينما يكتفي هو بالفرجة عليه وهو يلعب وكيف أن اللباس الجديد من حظ ضرار فحسب ،
كان وديع يستطيع أن يدرك هذا التمييز بينه وبين ضرار في المعاملة ولم يكن يتصور أن الأيام ستقلب له ظهر المجن وستختفي تلك الضحكة ويحل مكانها دمعة حارقة حزينة0
ولكن بالرغم من قسوة الحياة فقد تعلم وديع أن لا يشتكي وما زالت كلمات أستاذه عبد الرحيم يتردد صداها في أذنيه عندما حدثه عن القضاء والقدر وأن عليه أن لا يعترض فيما قدره الله ، لذلك كان وديع دوماً كلما ازدادت عذاباته ومحنته يردد في نفسه ويقول : الحمد لله 0
ها قد اقترب وديع ، بدأ قلبه يزداد خفقاناً كلما اقترب من منزل أمه ، بدأ يشعر بعبقها ويشم رائحتها الزكية ، انفرجت أساريره التي لا تنفرج إلا عندما يأتي لزيارتها ، اقترب وديع ، بدأت خطواته تلهث تباعاً حتى صار يجري ويركض حيث أمه ،اتسعت ابتسامته وزادت خفقات قلبه حتى كان بإستطاعته أن يسمعها ، تلك الخفقات المميزة التي لا يدركها إلا من كان على وشك مقابلة محبوبه ، ولكنه ومع كل سعادته بمقابلة أمه لم ينسى ما علمه إياه استاذه عبد الرحيم ماذا يقول عندما يأتي لزيارتها،
وقف وديع سعيداً وعلى محياه ابتسامة الرضا عن نفسه لأنه كسر حاجز الخوف وجاء لأمه ، رمى خلف ظهره كل تهديدات أبيه ووعيد زوجة أبيه وابتسامة ضرار الخبيثة ، رمى كل هذا خلف ظهره وركض نحو أمه وقال :
السلام عليكم دار قوم مؤمنون ، أنتم السابقون ونحن اللاحقون وإنا إلى الله إن شاء الله لمهتدون 0
كيف حالك يا أمي ؟ ، لقد جلبت لك عقد الياسمين الذي تحبينه ،سأضعه على القبر عوض العقد القديم ، أرى أن العقد القديم قد يبس، الحق أني أنا المقصر يا أمي فقد مر عليه أكثر من شهر ، اعذريني يا حبيبتي أني لم استطع أن أتيك خلال هذه المدة فقد انشغلت في دراستي وأنت تعلمين أن الامتحانات على الأبواب ،
إن كنت تسألين عني فأنا بخير والحمد لله ، في الأمس ذهبت مع أبي وزوجته وضرار إلى مدينة الألعاب ، كنت مسروراً جداً وقد لعبت في كل الألعاب خلا لعبة العروسة فأنت تعرفين أنها تسبب لي الدوار ، وأبي مثلما أحدثك عنه دوماً وكما عهدتيه يحبني كثيراً ويغدق علي الحنان ولو أنه في هذه الأيام يشدد علي وعلى ضرار من أجل الدراسة ، أما زوجة أبي فهي عطوفة للغاية وتحبني مثل ضرار ، صحيح أنها ليست مثلك إذ أنه ليس أحد مثلك يا حبيبتي ولكنها تحاول أن ترضيني بشتى السبل وابنها ضرار كذلك يحبني كثيراً ويعتبرني مثل أخيه ونحن دوماً نلعب ونتشاقى وزوجة أبي تطلب منا بحنان أن نكف عن المشاغبة0
إن كنت تسألين عن ثيابي المتسخة والقديمة هذه فأنا كما تعلمين عبقري في توسيخ ثيابي ، ألا تذكرين كم كنت تعانين مني كنت كل يوم تبدلين لي ثيابي وكذلك الحال مع زوجة أبي تبدل ثيابي كل يوم
لا تقلقي بشأني يا أمي ، لا بد أنك انتبهت إلى هذا الجرح الذي في وجهي ، لا تخافي علي فهذا جرح بسيط فقد وقعت في المدرسة عندما كنت ألعب مع أصدقائي ،
هذه المرة لن أستطيع أن أتأخر عندك فقد طلبت مني زوجة أبي أن أعود مسرعاً لأني يجب أن أتم كتابة واجباتي المدرسية
أعدك أني إن شاء الله سأتيك بأسرع وقت ولن أتأخر عنك بعد اليوم ، أسأل الله أن يغفر لك ويرحمك يا حبيبتي
أمي أنا لا أبكي ، هي فقط دمعة نزلت من عيني ، لا أدري ربما شيء من الغبار دخل لعيني
( يدير وديع ظهره ليغادر قبر أمه ويمشي بخطوات متثاقلة ولكنه ما أن مشى عدة خطوات حتى رجع مهرولاً لقبر أمه احتضن القبر وأجهش بالبكاء طويلاً ثم رفع رأسه وقال: )
أمي ماعدت أحتمل ، ماعدت استطيع أن أكذب عليك ، سامحيني يا أمي أني كذبت عليك ولكني لا أريدك أن تحزني من أجلي ،وسامحيني لأني خالفت أوامر أبي فأنا لا أستطيع أن ابتعد عنك ولا آتيك ، أمي أنا لست سعيداً في حياتي ، حياتي جحيم لا يطاق ، لقد كذبت عليك أنا لم أذهب لمدينة الألعاب ، أبي اصطحب زوجته وضرار وتركوني في البيت بحجة أني ما أكملت دروسي ، مع أن ضرار ما فتح كتابه أصلاً ولم يكتب أي شيء من واجباته ، أساساًَ أبي لم يصطحبني منذ أن توفيت إلى أي مكان من الأماكن الجميلة التي كنا نذهب إليها في عهدك ، أبي ما عاد مثل ما كان يا أمي وزوجته تملؤ صدره عني ولا يرتاح لها بال حتى يوسعني ضرباً ، ثيابي هذه يا أمي لم تتبدل منذ أكثر من عشرة أيام ولم يشتري لي أبي أي ثوب منذ أكثر من سنة
أمي إني اشتاق إليك كثيراً واشتاق إلى تلك الأيام التي كانت تضمنا ، كنت أظن أنه ليس أحد سعيد في هذه الدنيا مثلي والأن أظن أنه لا أحد حزين في هذه الدنيا مثلي
تذكرين يا أمي عندما كنت أصاب بالحمى كيف كنت تسهرين علي ولا تنامين حتى تنخفض حرارتي ، منذ أيام أصابتني الحمى ورحت أتأوه ودخلت علي زوجة أبي وعنفتني وطلبت مني أن أكف عن التأوه لأني أقلق راحة منامهم
حتى أبي ما عاد يكلف نفسه ويشتري لي الدواء ولم يعد يهتم بي بالمرة ومع أن مدير المدرسة طلب مني ثلاث مرات أن أحضر ولي أمري ليخبره عن حالتي المزدرية ولكن أبي لم يذهب إليه وهو الأن يفكرجدياً أن يجعلني أترك المدرسة وأن يلحقني بالعمل ، تصوري يا أمي أنا الذي كنت متفوقاً في دراستي إلى أين وصل بي الحال ،
لم تعد الدنيا حلوة من بعدك يا أمي ، وإن ضمة تضميني فيها خير لي من كل هذه الدنيا يا حبيبتي ، يا رب إني أرجوك أن تجعلني أذهب لعند أمي ، أن ألاقيها ، أن اضمها ، أن اشم رائحتها ، يارب إني مشتاق جداً لأمي 0
والأن استسمحك يا أمي أن أمضي فقد تأخرت وقد توعدني أبي أنه سيضربني بالكرباج وإن هو نسي فلا بد أن زوجته ستتطوع وتذكره بذلك ، ادعي لي يا أمي أن ينجيني الله من هذه الإمراءة وابنها ومن شرهما ، السلام عليك يا أمي
( وفي صباح اليوم الثاني كان القبر الذي بجوار أم وديع يفتح ليضم بين جنباته وديع الذي لم يحتمل سياط الكرباج من أبيه ومع أن وجهه كان متخماً بالجراح إلا أن ابتسامة غامضة كانت تعلو محياه ، كيف لا وقد صار بإمكانه أن يلتقي بمحبوبته ويعانقها ويستريح في حضنها بعد كل هذا العناء الطويل)




وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَىٰ ۖ قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ ۖ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
الإهداء إلى كل يتيم يستيقظ ليلاً وينادي أمي ويضيع صدى صوته ولا تجيبه أمه
السلام عليكم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق