شماليات

مرحبا بكم في مدونتي المتواضعة التي أجمع فيها زبدة ما كتبته في الشبكة العنكبوتية كما وأنوه أن حقوق النشر والنقل محصورة لكاتب هذه القصص والمقالات ولا أحل أحدا أن ينقل شيء من دون ذكر المصدر والاشارة إلى كاتبها أبو ذر الشمالي

الاثنين، 29 فبراير 2016

أسف صديقي ...أسف حبيبي.... نسيت اسمك ولكن طيفك ما زال في بالي




بسم الله الرحمن الرحيم
لا أصابكم الله بداء النسيان فهو داء سمج وممل يشعر المرء معه أنه قد أصيب بالخرف حتى لو كان في ريعان الشباب وإن أردتم أن تتعرفوا عليه أكثر فاسألوا به خبيرا ، فأخاكم بالله قد أصيب به وهو خير من يحدثكم عنه ، أحياناً كثيرة أفعل الشيء وأنسى بعد دقائق أني فعلته ،وأحياناً أضع الشيء وأنسى بعد لحظات أين وضعته، وأكل الطعام وأنسى بعد برهة ماذا أكلت ،وأسوأ ما في الأمر أن زوجتي المصون توصيني أن أجلب لها عند عودتي إلى المنزل بعض الحاجيات وهي مع أنها تؤكد علي عبر الهاتف كذا مرة على تلك الطلبات(لخبرتها فيما أتمتع به من فن النسيان) فإني عندما أدخل المنزل وقد رسمت ابتسامة ودية منتظراً أن تبادلني الابتسامة بأحسن منها وقبل أن ألقي السلام تلقي هي سيل الكلام (الذي لن أبوح لكم به) فلقد نسيت الأغراض أو بأحسن الأحوال نسيت بعض الأغراض مما يضطرني أسفاً أن أرجع القهقرى إلى السوق لأبتاع ما قد نسيت ، إلا أن كل ذلك يهون إذا قورن مع الخجل الذي يجتاحني إذا ما ساقني القدر أن أتعرف إلى أحد الأشخاص فإن هذا يعني أن علي أن أحفظ اسمه وهذا بالنسبة لي من اللوغاريتمات التي لا حل لها ، فإذا لقيت أبا أحمد فإني أهلل بوجهه مرحباً قائلاً:
أهلاً أبا محمد
ولكن الرجل يصحح لي معلوماتي قائلاً : عفواً لقد أخبرتك بالأمس أني أبا أحمد
فأعتذر له أشد الإعتذارحتى إذا ما رأيته ثانية صافحته بحرارة مؤهلاً مسهلا: أهلاً أبا محمد
فيرد وقد أخفى من وجهه علامات الامتعاض: لقد أخبرتك يا أخي أني أبا أحمد
فأعتذر له متعللاً بمشاغل الحياة التي تنسي المرء اسمه أحياناً حتى إذا ما لقيته الثالثة قلت له : أهلاً أبا محمد
فيمضي في طريقه غير أبه ولسان حاله يقول( إحنا ناقصين مجانين)
من أجل هذا فإني بت أخاف على ذاكرتي أن تضمحل شيئاً فشيئا ويصيبني الخرف وأنا في ريعان الشباب لا سمح الله ، ولكي أتأكد بأني ما زلت أحافظ على بقايا من ذاكرتي فإني أجلس في بعض الأحيان جلسة تستطيع أن تسميها علاجية استرجع فيها بعضاً من شريط حياتي لأتأكد من أني ما زلت محافظاً على هذه الذاكرة مما يساعدني على رفع معنوياتي
تارة أرجع للوراء خطوتين لأتذكر أمراًً مر معي من يومين وتارة أرجع عدة خطوات وأحياناً أتجرأ فأرجع للوراء ألاف الأميال لأصل لأيام طفولتي ، هل قلت طفولتي؟ يااااااه ، هذا يعني أن علي أن أرجع لربع قرن ويزيد فهل سأفلح أن أذهب إلى هناك ، ما رأيكم؟!ألا يستحق الأمر المغامرة، ولكن ما رأيكم أن تذهبوا معي فقد يكون في الأمر ما يثير الاهتمام ومن يدري لعلي أتيكم بقصة لا تنسوها فقد تكونوا تتمتعون بذاكرة خير مني ، فإلى هناك إلى أيام طفولتي...
عندما أعود إلى طفولتي فهذا يعني أني سأرجع إلى أحلى أيامي وأمرها ، إلى ضحكاتها ونحيبها ، إلى عذبها وعذابها حيث ملاعب الصبا ، والضحكات الرنانة المصحوبة مع زقزقات العصافير، والدموع الحارة التي تنسكب من عيني طفل كتب الله عليه أن يبكي لا كبكاء الأطفال إنما هي دموع تحرق وجنتيه حرقاً
نعم لقد بدأت أتذكر ،بل أني أتذكر جيداً يبدو أن ذاكرتي قد عادت بي بكل تفاصيل طفولتي ، يبدو أني ما كنت أنسى إلا إهمالا أو هروباً من الواقع أو عدم مبالاة فها هي ذاكرتي تخدمني وتحت طوعي ، ولكن هل سيكون من المناسب أن أغوص أكثر ، هل سأستخرج من ذاكرتي لؤلؤا ومرجانا أما أنها ستكون كأي ذاكرة طفل قضاها بين اللعب واللهو ، تعالوا لنجرب فلعل في طفولتي ما يستحق الغوص من أجله أكثر.........
في صباح ذلك اليوم الصيفي دخل والدي البيت وهو فرح مستبشر( وقلما ما كان يفعل ذلك) ليزف لوالدتي الخبر السار الذي طالما انتظراه:
لقد جاءت الموافقة من السفارة السعودية ، سنذهب يا أم العيال للعمل هناك كمدرسين
كان هذا الخبر ذو دلالة عظيمة عند أهلي ، فهذا يعني أن أوضاعنا المادية ستتحسن وأننا سنقبر الفقر وبناء على ذلك فقد تلقى أهلي هذا الخبر بفرح وسرور وأخذا يتجهزا للسفر واستقر الرأي على أن أذهب لبلاد الحجاز مع والديَ بينما يبقى أخويَ في بيت جدتي ليكملا دراستهما الجامعية ، بالنسبة لي فقد أخذت أقلد أهلي في مشاعري فأخذ مني السرور كل مأخذ فلقد ظننت وأنا في تلك السن المبكرة من عمري أني سأذهب في رحلة مع أهلي نقضي فيها يومين جميلين ونرجع لأحكي لأخوي ما رأيت في تلك السفرة بينما يقضمان هما أظافرهما غيظاً وحسداً لأنهما لم يذهبوا معنا ، واستمر هذا السرور الساذج يصاحبني حتى قبيل سفرنا بأيام قليلة عندما دخلت إلى غرفة المعيشة لأتفاجأ بأمي وهي تنتحب باكية وخالتي عندها تحاول أن تهدئ من روعها ....
هوني عليك يا أختاه كلها سنة وتأتين أجازة ، ألا يكفي أنك ستذهبين إلى بلاد الحجاز سيكون في مقدوركم أن تعملوا عمرة متى ما شئتم
لم أفقه شيئاً مما تفضلت به خالتي ، فأنا لم أكن لأقدر ما تحمله كلمة سنة من قيمة زمنية لا يستهان بها ، فهي تعني اثنا عشر شهرا وثمان وأربعون أسبوعا وثلاثمائة وخمس وستون يوماً و8760ساعة و525600دقيقة وهي أرقام لا يدرك معناها إلا من جرب الغربة والبعد عن الأهل والأوطان وأنا لم أكن لأدرك هذا الأمر في تلك السن المبكرة من حياتي ولكني مع ذلك وعندما رأيت دموع أمي سخية فإني شعرت ولو بالفطرة أن في الأمر خطب ما وأن الأمور لن تكون كرحلة قصيرة استمتع بها وأرجع لأقص على أخوي ما شاهدت خلالها، إلا أن الأمور اتضحت لي بشكل كامل لحظة السفر عندما اجتمع الأقارب لوداعنا وتفجرت المقل بالدموع ولعلعت الحناجر بالبكاء المصحوب بالنحيب ويا لهول ما رأيت عندما التفت فرأيت أبي وقد استسلم لموجة خانقة من البكاء، أبي الذي كانت أمي إذا ما أسقط في يدها ووصلت معي إلى طريق مسدود لوحت لي بذكر اسم والدي وهذا كان كفيل بأن أبول بسروالي أراه الأن يبكي وهو يوصي جدتي خيراً بأخوي ، عندما رأيت هذا تيقنت أن الأمر جلل وأن وراء الأجمة ما وراءها.............
لم أدرك معنى الغربة إلا في ذلك اليوم الشاتي حين دخلت مدرستي الجديدة في تلك البلدة الصغيرة التي تقع في جبال عسير حيث تعانق الأرض السماء ، وحينما ألقيت جسدي الغض في مقعد الدراسة وأمسكت بالقلم متأهباً لأول يوم دراسي توقعت أن معلمة الفصل ستدخل بطلتها البهية لتعلمنا أناشيد عن الزهور والمطر والربيع كما تعودت في مدرستي ولكن توقعاتي خابت حينما دخل معلم كبير بالسن وعلى وجهه قسمات الصرامة ، أول ما ولج الفصل وقعت عيناه علي يدي وأنا ممسك بالقلم فبادرني قائلاً:
صك القلم
اعتقدت أنه يأمرني أن أمسك القلم ولأنني ممسك به فعلاً فلقد ظننت أنه لم ينتبه له فاكتفيت بهز رأسي مصحوباً بابتسامة خفيفة ولكن المعلم نظر إلي مندهشاً وقال:
يا ولد أقلك صك القلم
عبثاً حاولت أن أفهمه بأني ممسك بالقلم كما طلب( لاعتقادي بأنه يريد هذا) فأخذت ألوح بالقلم في وجهه ، ولكن الأستاذ اعتبر تلويحي بالقلم في وجهه تحد له ففغر فاه باندهاش وهو يقول:
يا ولد مهبول انت أقلك صك القلم
وهنا تطوع أحد التلاميذ من أرض الحرمين مشكوراً بأن قام من مقعده وجاء لينزع القلم من يدي ويضعه جانباً وعندها عرفت أن معنى كلمة صك القلم أي ضع القلم.
صحيح أن هذه القصة تثير ضحكي بعد هذه السنين الطويلة إلا أنها لم تكن كذلك في وقتها ، لقد تعلمت من هذه القصة وأنا في تلك السن المبكرة أن هناك لهجة غير اللهجة التي تعلمتها في بلدي وهذا شعور قاس بالنسبة لطفل لم يتعلم النطق إلا منذ سنوات معدودة وإذ به يرى أن ما تعلمه عليه أن يتركه هناك في بلده ، حيث ملاعب الصبا التي تركها خلفه وحيث أخواه اللذان لن يقرضا أظافرهما حسرة لتفويتهما تلك الرحلة بل هو الذي سيقضم أظافره شوقاً إلى بلاده ، نعم لقد علمتني هذه الحادثة معنى الغربة وأكاد أجزم أني تعلمت معنى الغربة قبل أن أتعلم أبجديات الحياة
ربما من المفيد أن أقف هنا وقفة قصيرة لأبين لكم أنه بالرغم من الشعور القاسي الذي كنت أشعر به من البعد عن الأهل والأحباب وأنا في تلك السن المبكرة ولكني في الواقع قد أحببت تلك البلاد( أي بلاد الحرمين) حباً جماً واتضح هذا الحب عندي عندما رجعت مع والديَ إلى بلادنا ، فلقد استفدت من تلك السنوات التي قضيتها فيها أشياء كثيرة أثرت على عقليتي ونظرتي للأمور فيما بعد عندما أصبحت شاباً وتخطيت مرحلة المراهقة المرهقة، ولكني الأن أنقل لكم شعور طفل رأى نفسه فجأة في بيئة جديدة عليه كلياً وكان عليه أن يتأقلم معها ولكن هل نجحت أن أتأقلم مع هذا التغير في حياتي ، هذا ما ستجيب عنه السطور القادمة بإذن الله
يظن البعض أن مقولة (حب الأوطان من الإيمان ) حديث نبوي وهذا خطأ شائع ولكن مهما يكن فهي مقولة صادقة إلى حد بعيد، فحب الوطن غريزة وضعها الباري عز وجل في الإنسان لا يستطيع التحكم بها أو التغلب عليها وهذه الغريزة تظهر بشكل جلي عندما يفارق أحدنا أهله وبلده ويضرب في الأرض يبتغي من رزق الله ورحم الله القائل
بلادي وإن جارت علي عزيزة وأهلي وإن ضنوا علي كرام
كنت كثيراً ما أجلس متخفياً في سريري وقد غطيت رأسي باللحاف لأبكي وأبكي وأبكي حتى تستغيث عيناي مني ويتبلل اللحاف بالدموع، وكنت حريصاً على أن ألا أظهر مشاعر الحزن والشوق إلى بلدي لوالديَ
ربما لكي لا أثير غضب والدي مني لظني وقتها أن بكائي هذا من الترف المحرم الذي يجب أن أترفع عنه
وربما لأني لا أريد أن أزيد من حزن أبي وأمي اللذان تركا خلفهما أخويَ كما ذكرت
ولكني كنت أجد متعة غريبة في البكاء وراحة تعوضني ولو قليلاً عن ربوع بلادي
كان أدنى شيء كفيل بأن يحرك بي موجات الشوق الهادرة وأدنى ذكرى كفيلة أن تفجر بركان الحنين لدي
كنت أحن شوقاً إلى الحارة التي كنت أسكن بها وأتساءل هل ما زال أصدقائي يلعبون في المكان الذي كنا نلعب به
أحن شوقاً إلى البيت الذي فتحت عيناي على الدنيا فرأيتني أحيا به
أحن شوقاً إلى أخي الكبير بل أني كنت أحن حتى لأوامره الرعناء التي كان يحاول من خلالها ممارسة دور التسلط الأبوي
أحن لأصدقائي الذين تركتهم خلفي ولأقرنائي الذين كنت ألعب معهم بل أني كنت أحن حتى لأولئك الذين لم أكن استلطفهم بالمرة، نعم لقد كنت أحن حتى لابن خالتي الذي كنت أرى سماجة الدنيا كلها قد اجتمعت في شخصه الكريم
أعتقد أن من كانت تلك حالته فلا تسأله عن اندماجه في تلك البيئة الجديدة عليه، ولأزيد الفكرة وضوحاً دعني أحكي لك هذه القصة التي كلما ذكرتها ضحكت ملء فمي:
في يوم من الأيام قالت لي أمي: اذهب لبيت جيراننا وقل لجارتنا( وهي من مصر) أن تعيرنا الطنجرة
وقبل أن أهمَ بالذهاب استدركت أمي قائلة: إياك أن تقول لها طنجرة ولكن قل لها ( الحلة)
ولما تساءلت عن السبب أخبرتني أمي أنها لن تفهم علي (أي جارتنا) إذا قلت لها طنجرة فهم في مصر يقولون عنها حلة
وفي الطريق لبيت جيراننا وفجأة وبدون مقدمات ثارت علي نعرتي الوطنية وتفكرت في نفسي : لماذا نحن نفهم لهجتهم وهم لا يفهمون كلامنا ، والله لن أقول لها إلا طنجرة وليكن ما يكون، طرقت الباب وفتحت لي الجارة(ذكرها الله بالخير) وكان في يدها ابنها الرضيع ترضعه فقلت لها :يا خاله أمي تسلم عليك وتريد منك أن تعيريها الطنجرة
فقالت لي: طنكرة ايه يا ابني كفى الله الشر
فأعدت عليها نفس الكلام دون أن أوضح لها أن طنجرة تعني حلة
حاولت هي بشتى الطرق أن تفهم مني ما أريد قائلة: يا ابني فسر انت عاوز ايه بالضبط
ولكني بقيت مصراً على موقفي المبدئي ولم أحد عنه قيد أنمله، فلما رأت عبث محاولاتها معي قامت إلى ملاءتها ووضعتها على رأسها لتمضي معي إلى بيتنا وتسأل أمي عن الشيء الذي تريد استعارته وقبل أن تمضي معي وضعت ابنها الرضيع في مهده قبل أن تكمل ارضاعه والذي بدوره عبر عن سخطه الشديد فأخذ يضرب الفراش برجليه ويولول مثل الثكالى ، أما أنا فلقد بقيت على موقفي ولم ارحم صراخ الطفل الذي وصل لأخر الشارع ضارباً بعرض الحائط كل العلاقات الودية مع الشقيقة مصر وكدت أن أتسبب بأزمة حادة في العلاقات، وعندما وصلت جارتنا إلى أمي اعتذرت لها كثيراً وقالت لها لقد أخبرته أن يقول لكِ (الحلة) ولكن جارتنا نظرت إلي بغيظ قائلة: ما كنت تقول انك عايز الحله من الصبح، ربنا يهديك يا ابني، أما أنا فلقد اكتفيت بأن (تنحت برأسي) ولم أتراجع عن موقفي بتاتاً،طنجرة يعني طنجرة!!!

بقيت على هذه الحالة تمور بي الأشواق موراً وانكمشت على نفسي كريشة في مهب الريح تحاول أن تحمي نفسها من اعصار شديد حتى جاء ذلك اليوم الذي دخل به حياتي ، جاء كالنسمة العليلة في يوم قيظ حار، جاء كالماء البارد على الظمأ ،جاء كالبلسم الشافي على الوجع، المهم أنه قد جاء وأقتحم حياتي بدون مقدمات ،اصطحبه أبوه معه لبيتنا عندما كان في زيارة لوالدي،وسرعان ما ائتلفت أرواحنا وتحاببنا وأصبحنا صديقين منذ الوهلة الأولى ، لقد أحببته كثيراً ربما لأني رأيت فيه تعويضاً لي عمن خلفته ورائي من أصدقاء في بلادي ، فلقد كان من نفس البلد الذي أنتمي إليه وهو أيضاً تعلق بي ربما لأنه شعر أني أشاطره الوحدة التي يعيشها فهو بالرغم أن له ثلاثة إخوة ولكنهم ليسوا أشقائه فهو ابن (الجديدة) كما يقولون ولعله كان يعاني من نفس الشعور الذي كنت أشعر به من الوحدة والغربة من أجل هذا فإننا أعلنا منذ اللحظة الأولى عن ميلاد صداقتنا
أصدقكم القول أني كنت أحبه ، بل لقد أحببته أكثر من أي شخص في تلك الفترة من حياتي، لقد كان بمثابة طوق النجاة الذي تعلقت به فرجعت لي حيويتي والضحكات الرنانة التي افتقدتها منذ أن غادرت ملاعب الصبا في بلادي، كنا نركض سوياً وكان ماهراً في الجري وكنت عبثاً أحاول أن أجاريه في الجري ، كان يقفز من مرتفع عال وكنت أقفز وراءه وكدت مرة أن أكسر رجلي وأنا أقوم بذلك،كان وهو يمشي إذا أراد أن ينعطف يميناً يغمض عينه اليمنى ويفتحها عدة مرات ويصدر صوتاً من فمه وعندما يريد أن ينعطف شمالاً يفعل نفس الشيء في عينه اليسرى وعندما سألته عن السبب قال أنه يقلد (غماز السيارة) فكنت أضحك لذلك كثيراً، ولأننا أصدقاء فكان لا بد أن يكون لنا أسرارنا المشتركة فكنت أحكي له أسراري وكان يفعل مثل ذلك ، المهم أنه ملئ عليَ حياتي وأحال أيامي الحالكة إلى أيام سعيدة كدت معها أن أنسى غربتي وأن أنسى ما تركته خلفي من ملاعب وأصدقاء ، ولكن سبحان الله فالأيام الجميلة قلما ما تدوم ، فلم تدم تلك الصداقة الطفولية البريئة سوى عدة شهور ، فكما أن صداقتنا ولدت من دون مقدمات فإنها قد ماتت بدون مقدمات
قالوا لي : لقد مات صديقك

كيف مات!!!!
مات بحادث سيارة
ألم أقل لكم أنه كان كالنسمة العليلة في يوم شديد الحرارة، فما أقل النسمات العليلة في أيام القيظ
سبحان الله ، شاء الله أن يموت صديقي وتبقى أمه وتموت زوجة أبيه ويبقى أبناءها الثلاثة، معادلة صعبة ولكن كلٌ مسير لما قدَر له
أما أنا فلقد أنكفأت على نفسي ورحت ألعق جراحي فقد علمتني الحياة معنى الفراق وألم الوداع بعد أن علمتني معنى الغربة وأذقتني طعم مرارة فراق الأحبة وأنا لم أتجاوز السنين السبع من حياتي
رحت أتردد على نفس الأماكن التي كانت تجمعنا ولكنها لم تعد ترقني ، حاولت مرة أن أقفز من نفس المكان الذي كنا نقفز منه ولكن شجاعتي خانتني فما استطعت ذلك ، حاولت مرة أن أقلد غماز السيارة فأغمضت عيني وفتحتها عدة مرات وأصرت صوتاً يشبه الغماز ولكن أحدا ممن كان حولي لم يضحك فما عدت لأفعل ذلك
الخلاصة أن شعوري بالغربة عاد يتملكني ومن يدري لعله ما زال يتملكني حتى هذه اللحظة
أخذتني الحياة ورحت أكبر وتكبر معي الحياة والمسؤوليات وارتبطت بصداقات جديدة وشيئاً فشيئاً بدأت أنسى ملاعب الصبا والضحكات الرنانة وبالتالي بدأت أنساه
الأن وبعد كل هذه السنين فإن ذاكرتي قد نجحت أن تعيدني إلى تلك الأيام لأتذكر صديقي الذي لم تدم صداقتنا سوى أشهر معدودة ولكنها كانت كفيلة بأن تملأ كياني بأحلى الذكريات
لا يا صديقي لن أنساك فرحمة الله عليك ، رحمك الله يا.......
يا.......
يا هيثم.... لا لم يكن اسمه هيثم بل أحمد ....لا لا ليس أحمد بل سمير .....
أتدري لقد نسيت اسمك يا صديقي فإن ذاكرتي التي أعادتني إلى تلك الأيام نسيت أن ترسخ في ذهني شيئاً مهماً ألاوهو اسمك ،
قد أكون أحمق إذ كيف أنسى اسمك
قد أكون مستهتراً إذ كيف نسيت اسمك
هل أنا الذي نسيت أم أن الزمن أنساني؟
أسف صديقي ...أسف حبيبي.... نسيت اسمك ولكن طيفك ما زال في بالي
السلام عليكم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق