شماليات

مرحبا بكم في مدونتي المتواضعة التي أجمع فيها زبدة ما كتبته في الشبكة العنكبوتية كما وأنوه أن حقوق النشر والنقل محصورة لكاتب هذه القصص والمقالات ولا أحل أحدا أن ينقل شيء من دون ذكر المصدر والاشارة إلى كاتبها أبو ذر الشمالي

الاثنين، 29 فبراير 2016

قطعة كنافة



بسم الله الرحمن الرحيم
الإهداء

لكل طفل وطفلة سورية
لكل رجل وإمراءة سورية

لكل شيخ وعجوز سورية
أهدي هذه القصة التي تحكي معاناة الشعب السوري وتختصرها في كلمات

مع خطواته المتثاقلة كان الأستاذ وديع يصعد الدرج بإعياء وتعب شديدين بعد أن عاد من المدرسة وقبل أن يدس يده إلى جيب معطفه ويخرج المفاتيح فتحت جارته أم عمر باب بيتها المقابل لمنزله وسلمت عليه وأردفت قائلة :
لقد دخلت اليوم مرتين على بهاء وهو الحمد لله في تحسن ونفسيته أفضل بكثير
- أشكرك كثيرا يا أم عمر فوالله إنك وأبو عمر لم تقصرا معنا أنا وبهاء ، فمنذ استشهاد زوجتي وداد وأنتم لم تتركونا أبدا
- ما هذا الكلام يا أستاذ وديع ، أنتم لستم مجرد جيران لنا بل نحن أهل ، فلا أريد أن اسمع منك هذا الكلام ثانية ، كما أنني أتمنى أن تنبه بهاء أن يعاملني كأمه فكلما أريد أن أدخله إلى الحمام يشعر بحرج شديد مني
- تعلمين يا أم عمر أن بهاء يمر بحالة نفسية ضائقة ، فمن جهة فقد أمه ومن جهد أخرى فقد قدميه في التفجير
- نعم أعلم هذا ، قاتلهم الله فقد سقط الصاروخ في البناية وكان أسوأ من تأثر به هما وداد رحمها الله وبهاء الذي بترت قدماه
انهى الأستاذ وديع محادثته مع جارته أم عمر ودخل بيته ، أخرج محفظته وعد النقود المتبقية معه ، إنها ثلاثة ألاف ليرة وبضعة نقود معدنية ينبغي أن يقضي الشهر بها ، خلع معطفه الطويل ووضعه على الكرسي وعبثا حاول أن ينظفه من الوحل الكثير الذي أصابه عندما تعثر صباحا وهو في طريقه إلى المدرسة ، تمتم قائلا : رحمك الله يا وداد ، ما كنت ترضين أن أخرج من المنزل إلا وأنا في كامل أناقتي ، لو ترين الأن حالتي وكيف هو مظهري البائس
اتجه نحو سرير ابنه بهاء الذي كان يغط في نوم عميق وألقى نظرة ملئها الحنان عليه وألقى بنظرة خاطفة تريد أن تتنكر للواقع نحو قدماه أو قل للمكان الذي ينبغي أن تكون قدماه فيه موجودتان أو لعل نظرته الخاطفة تلك كانت كمن ينتظر معجزة أن ينظر فجأة فيراهما في مكانهما موجودتان من جديد
توجه نحو النافذة ، إنه يوم شائت والمطر يهطر بغزارة كما كان منذ الصباح ، سرح خياله وعاد به لثلاثة أشهر عندما غادر المنزل لمشوار بسيط ، كان وقتها يقعد مع زوجته وداد وابنه بهاء وفجأة قرر النزول للشارع لأمر عارض ليس مهم وبعد نزوله بعدة دقائق سقط صاروخ على البناية التي يقطن بها وقتلت زوجته وأصيب ابنه إصابة بليغة بترت على اثرها قدماه
ألتفت نحو سرير بهاء فإذ هو مستيقظ يبتسم له ، بادره الإبتسامة بأختها وقال له :
- ها قد استيقظت يا بهاء ، إنه يوم ممطر ، منذ زمن لم يهطل مثل هذا المطر
أومأ بهاء برأسه وقال : كم أتوق لرؤية المطر يا أبي
- لا بأس يا بني سأحملك لترى المشهد من النافذة
- ياه إن المشهد جميل جدا ، أترى يا أبي الساحة التي كنت ألعب بها مملؤة بالمطر، كنا عندما ننتهي من اللعب أمضي مع ابن جارنا ونشتري الكنافة ، كم أشتاق لتلك الأيام وكم أتوق للكنافة
وضع الأستاذ وديع ابنه على السرير بحركة انفعالية وأردف قائلا : تشتاق للكنافة ! هذا سهل ، الأن انزل للشارع واشتري لك الكنافة
-لا يا أبي إنهما تمطر بشدة ، غدا بعد عودتك من الدوام تشتريها لي
- بل سأشتريها الأن ، كلها عشرة دقائق وأعود ومعي الكنافة ، سأشتري لك كيلو من الكنافة
ارتدى الأستاذ وديع معطفه فقال له ابنه بهاء بحزن بالغ : أبي إن ثيابك ومعطفك متسخان جدا
فأجابه والده : نعم يا بني لقد تعثرت اليوم صباحا ووقعت على الوحل ، أرأيت يا بهاء لقد ساءت حالتنا بعد وفاة أمك ، رحمها الله ما كانت لترضى أن أخرج للشارع هكذا ، ولكن لا بأس سأطلب من جارتنا أم عمر أن تغسل لي الثياب ، أعرف أننا نثقل عليهم ولكنهم جيران طيبون، وبالمناسبة سأضع جوال أمك رحمها الله إلى جوار سريرك فإن احتجت شيئا اتصل بجارتنا وهي تأتيك
خرج الأستاذ وديع إلى الشارع ومضى بإتجاه بائع الحلويات وفي منتصف الطريق بدأ إطلاق رصاص شديد أعقبه سقوط بعض القذائف ، بدأ الناس يهرعون ويجرون وبدأت المحلات تغلق أبوابها ويمضي الناس سراعا ، كان الأستاذ وديع في منتصف الطريق ففكر هل يعود للمنزل أم يكمل مشواره لبائع الحلويات ، وبصورة جنونية قرر أن يكمل مشواره وما أن وصل للمحل حتى تفاجأ أنه مغلق كبقية المحلات التي أغلقت ففكر في نفسه أن كيف لم يخطر في باله أن محل الحلويات سيكون مغلق هو الأخر ، هم بالعودة للمنزل ولكن فكرة جنونية أخرى خطرت في باله ، لماذا لا أذهب لمحل الحلويات في الحي الثاني هو لا يبعد أكثر من ربع ساعة مشيا على الأقدام وصحيح أنه تحت سيطرة الجيش الحر ولا بد لكي أذهب إلى الحي الثاني أن أمر من أمام حاجز للجيش النظامي أولا ، ولكن بهاء سيكون مسرورا عندما أأتي له بالكنافة والأمر يستحق المتابعة
وبالفعل مضى الأستاذ وديع نحو الحي الثاني وقبل أن يصل إليه كان ينبغي أن يقف أمام حاجز للجيش النظامي وقد كان هذا ووقف الأستاذ وديع أمام الحاجز الذي ما أن وصل إليه حتى قابله رئيس الحاجز قائلا :
تعال لهون ولاك ، لوين رايح قرد ولاك
- والله يا سيدي رايح للحي التاني
- قراااد ، شو رايح تعمل عند العصابات المسلحة ، هنت منهم ولاك قرد
- لا والله يا سيدي أنا مالي منهم ، أنا أستاذ ومالي علاقة بالسياسة بس رايح اشتري من هناك كنافة
- ليش من قلة كنافة عندنا ولاك قرد ، وإلا الكنافة عندنا مو عاجبتك، عند العصابات المسلحة أطيب يعني وعبتشرشر سمنة
- لا والله يا سيدي مو هيك القصة ، بس ابني الله يخلي أولادكم اشتهى على كنافة وهو مصاب ورجليه مقطوعتين ، فما حبيت إني أخجله وذهبت للمحل اللي عندنا في الحي ورأيته مغلق ، فمشان هيك بدي أروح للحي التاني
- إيه بلا فلسفة ولك ، بدك تعملي ياها مسلسل مكسيكي ، هات لأشوف هلجوال اللي معك حتى نفتشه ونتأكد أنك مالك عميل للعصابات المسلحة
ناول الأستاذ وديع جواله لرئيس الحاجز الذي أعطاه لمساعده الذي بدوره أخذ يفتشه وهو يبتسم ابتسامة خبيثة وما أن أنهى تفتيشه له حتى قال لسيده :
الجوال سليم يا سيدي وهو مملوء بالأغاني الوطنية وواضح أنو صاحبه شريف وما هو من العصابات المسلحة التخريبية
هز رئيس الحاجز رأسه وقال للأستاذ وديع مبتسما : عفارم عليك وهلق حتى تثبت إنك مواطن شريف لازم تغني لنا أغنية وطنية ، هنت حافظ شي اغنية وطنية ولك قراااد
فأجابه الأستاذ وديع ، نعم يا سيدي حافظ أغنية وطنية ، ووقف الأستاذ وديع منتصبا ومد ذراعيه وأخذ يردد : ملايين ملايين السوريين جينا نعاهد عهد الله نفدي وطننا معك يا اسدنا ما نركع إلا لله
قهقه رئيس الحاجز ومساعدة كثيرا وبعد أن شبعوا ضحكا أشار رئيس الحاجز للأستاذ وديع قائلا :
نحن تأكدنا انك مواطن شريف لاغبار عليك ، وبدنا نخليك تروح للحي التاني حتى تشتري كنافة للمحروس ابنك ، بس بالأول لازم تدفع بطاقة
-بطاقة شو يا سيدي
-كل واحد بدو يمر لازم يدفع ألف ليرة
-ألف ليرة !!!
بس هذا مبلغ كتير كبير وأنا كل اللي معي ثلاثة ألالف ليرة بدهم يقضوني لأخر الشهر
-والله هي مو مشكلتي ، إما بتدفع ألف ليرة أو إنك مو مواطن شريف ومع العصابات المسلحة التخريبية
-لا يا سيدي بدفع
-عفارم عليك ، هلق انت مواطن شريف وهلق يالله انقلع
وبالفعل انقلع الأستاذ وديع ومشى مسافة فاصلة بين الحيين إلى أن دخل الحي الثاني وهناك رن هاتفه الجوال ، نظر للمتصل فإذا هو ابنه بهاء الذي بادره بالقول : أبي أين أنت لقد تأخرت ؟
-لا تقلق يا بهاء ، لقد كان محل الحلويات في حينا مغلق فذهبت للحي الثاني لأشتري لك الكنافة
-أبي لا تتأخر
-لا تقلق يا بني ، نصف ساعة وأكون في المنزل
ما أن وصل الأستاذ وديع للحي الثاني حتى راعه القصف الذي يطال الحي والطائرات التي تحوم فوقه والناس يهربون على غير هدى ويجرون سراعا ، أسرع الأستاذ وديع الخطا وألتجأ إلى زاوية وما هي إلا لحظات ووقف جانبه رجل سمين يلهث من الجري ويلتقط أنفاسه بصعوبة وقد انتفخت أوداجه غضبا ورهقا
بادره الأستاذ وديع قائلا :
مرحبا يا أخي أين أجد هنا بائع كنافة
نظر الرجل السمين للأستاذ وديع غاضبا وصرخ في وجهه وكأنه وجد فريسة سائغة لينفس شحنة الغضب التي في داخله وقال :
كنافة !!
تريد كنافة ؟؟
ماذا تفضلتم بئا سيدي ، كنافة ، ولا تريد بالمرة بائع كوكتيل وشوية عصير الكيوي حتى تهضم الكنافة
-يا أخي لا داعي لكل هذا الغضب ، أنا سألتك سؤال وصلى الله وبارك
- ولك يا أخي أنت ماذا أنت ، مجنون أنت ، الطائرات من فوقنا والقذائف من حولنا والرصاص يثناثر مثل حبات المطر فوق رؤوسنا وانت قاعد تسألني عن بائع كنافة ، اسمعوا يا ناس اسمعوا ، قال أين أجد بائع كنافة قال ، يعني على رأي المثل الناس بالناس والقطة في النفاس ، حل عني يا أخي حل عني ما ناقصنا مجانين
-لا يا أخي لا تظن بي الظنون وإياك أن تظن أني مجنون ، كل ما في الأمر ان ابني مبتورة قدميه وقد اشتهى على الكنافة ولم أجد كنافة في الحي الأول فجئت لأشتري له من عندكم كنافة
- يا رجل أنت ماذا تقول ، كنافة ماذا التي ستجدها عندنا ، نحن في هذا الحي لا نشبع الخبز حتى يكون عندنا بائع كنافة ، أساسا بائعو الحلويات تركوا هذه البلاد ومنهم من ذهب إلى تركيا ومنهم من ذهب إلى لبنان ومنهم من ذهب إلى بلاد الواق واق ، المهم أن يخلص من هذه البلاد ، على كل حال إذا أردت أن تشتري كنافة فعليك أن تذهب للحي الثالث الذي تسيطر عليه داعش هناك تجد عندهم كل شيء ولكنك ستمر قبلها على حاجز للجيش الحر
ترك الأستاذ وديع الرجل السمين الغاضب الذي كان يتبعه بنظراته الغاضبة ومضى نحو الحي الثالث وقبل أن يصل للحاجز رن هاتفه الجوال وكان المتصل ابنه بهاء الذي بادره ضاحكا:
أبي لقد تأخرت كثيرا
-لا بأس يا بهاء سأضطر أن أتأخر قليلا فأنا في طريقي للحي الثالث فلم أجد في الحي الثاني بائع كنافة
-أبي لا تتأخر أنا وأمي ننتظرك
- لن أتأخر يا بني ، لن أتأخر
أغلق الأستاذ وديع هاتفه وحدث نفسه قائلا : لا يا بهاء لقد أخطأت يا بني ، فمهما ساعدتنا جارتنا أم عمر فلا ينبغي أن تناديها بأمي ، فأمك لا يأخذ مكانها أحد ، وصحيح أن أبو عمر وزوجته يساعدوننا كثيرا ولكن لا يصل الحال أن تنادي جارتنا أم عمر بأمي ،وهذه ليست أول مرة تفعل ذلك ، حدثته نفسه أنه سيوجه هذه الملاحظة لبهاء ريثما يعود للمنزل بصحبة الكنافة وما قطع تفكيره إلا وقوفه أمام حاجز الجيش الحر الذي بادرهم بقوله :
السلام عليكم
-وعليكم 00لوين رايح
-والله رايح للحي الثالث
-للحي الثالث ، أممم ، لعند الإرهابيين التكفيريين ، اكيد انت واحد منهم
-لا والله مالي منهم ، أنا أستاذ مدرسة ومالي دخل بالسياسة
-عبتقللي مالك دخل بالسياسة ، هات لأشوف جوالك إذا كان لك دخل بالسياسة وإلا لاء
أخرج الأستاذ وديع جواله من معطفه وقدمه لرئيس الحاجز الذي أعطاه لأحد عناصره الذي أمسك به وعلى شفتيه ابتسامة خبيثة والذي بدوره قال لرئيسه بعد أن تفحصه : نعم أخي أبو الرعب ، الجوال نظيف ومليء بالأغاني الثورية وصاحبه واضح أنه مؤيد للثورة
ناول رئيس الحاجز الجوال للأستاذ وديع ولكن الجوال سقط أرضا فالتقطه الأستاذ وديع ودسه في جيبه بسرعة
وهنا قال له رئيس الحاجز : حافظ شي من الأغاني الثورية
-نعم حافظ الكثير منها ، وهنا وقف الأستاذ وديع منتصبا وفتح ذراعيه وأخذ يردد : بدنا نشيله لبشار بقوتنا القوية سوريا بدها حرية سوريا بدها حرية
قهقه رئيس الحاجز ومساعده ثم قال : واضح انك مواطن شريف ومالك منحبكجي ، وراح نخليك تعدي للحي التالت بس لازم قبل هيك تدفع ألف ليرة لدعم الثورة
-ألف ليرة !!؟؟
بس أنا ما بقي معي غير ألفين ليرة بدها تقضيني لأخر الشهر
-والله هي مو مشكلتي إما بتدفع ألف ليرة أو أنت منحبكجي
- لا أدفع ألف ليرة ، تفضل
ناوله الألف ليرة بحسرة شديدة ومضى للحي الثالث الذي لم يكن أفضل حالا من الحيين الأول والثاني ، وكان الطيران يقصف والقذائف تسقط هنا وهناك والناس تجري لاهثة ، وقف الأستاذ وديع بجوار أحد الشبان الذي كان لديه لحية خفيفة ويبدو عليه الوقار سأله الأستاذ وديع عن بائع للكنافة ، فنظر الشاب له نظرة متفحصة وأخذ يقلبه في عينيه رأسا وعقبا فبادره الأستاذ وديع قائلا:
يا أخي لا تظن بي الجنون ، ولا تغرك ثيابي المتسخة وسؤالي العجيب ، وشرح له الأمر وما الذي يدفعه للسؤال عن بائع للكنافة وما أن أنهى سؤاله حتى قال له الشاب :
لا حول ولا قوة إلا بالله ، انظر يا أخي مهما كان أمرك ، فإن كنت تريد بائعا للكنافة تراه في أخر الشارع وقبلها ستمر على حاجز للدولة
ودعه الأستاذ وديع بينما ظل الشاب يلاحقه بنظرات ملئها الحسرة والشفقة
عندما وصل الأستاذ وديع إلى حاجز الدولة كان هناك رجل واحد يقف على الحاجز عليه قسمات الصرامة والغلظة ، خاطبه الأستاذ وديع :السلام عليكم
-وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، من أين وإلى أين ؟
-والله يا شيخ أنا جيت من الحي الأول ومررت من الحي الثاني وجيت لأشتري كنافة
-جئت من عند الكفار ومررت بالمرتدين ، فهل أنت من هؤلاء أم من هؤلاء
-لا والله يا شيخ أنا مالي كافر ولا مرتد ، أنا مسلم ولله الحمد حتى أني حافظ كثير من الأناشيد الجهادية
ووقف الأستاذ وديع منتصبا ومد ذراعيه وأخذ ينشد : سنخوض معاركنا معهم وسنمضي جموعا نردعهم ونعيد الحق المغتصب وبكل القوة ندفعهم
صاح به الشيخ قائلا : ويحك يا هذا تتمايل مثل الغواني ، قف واثبت وكف عن الترنح ، هات اعطني جوالك لأفتشه وأرى ما فيه
مد الأستاذ وديع يده إلى جيبه وأخرج جواله وناوله له فقلبه بين يديه ثم قال له : أتسخر مني يا رجل ، تعطيني قطعة خردة ، هذا الجوال مكسور وليس فيه بطارية ولا بطاقة
تلعثم الأستاذ وديع ثم سرعان ما تذكر فقال لصاحب الحاجز :
لقد تذكرت يا شيخ ، لقد مررت بحاجز الجيش الحر وأعطيتهم الجوال ليفتشوه وهنيك وقع أرضا ولا بد أنه انكسر وسقطت منه البطاقة والبطارية
- ما أكثر كذبكم يا أهل الشام وتحايلكم ، أرني لأفتش جيبك لانظر ما فيه
مد صاحب الحاجز يده إلى داخل جيب معطف الأستاذ وديع وأخرج علبة دخان فاستشاط غضبا وبدأ يصيح :
دخان !!!!
تدخن أيها المأفون ، يا فاسق يا ماسق يا فاجر يا ناجر يا صفتك يا نعتك يا عدو نفسك وعدو الإسلام ، هلم معي إلى السجن
-لا يا شيخ أرجوك إلا السجن
-لا بد من السجن فالسجن مدرسة إذا اعددتها أعددت شعبا سهل الانقياد
-أرجوك يا شيخ فإنا عندي ابن صغير مبتورة قدماه وأمه متوفية وما بيقدر يبقى لوحده
-لقد حزت على عطفي فلن اذهب بك إلى السجن ، هذا حتى تعلموا أننا لسنا قساة القلب كما يدعي خصومنا وعليه فسأستعيض بالسجن بالغرامة فهلم وادفع لي ألف ليرة غرامة لتدخينك السجائر
-بس يا شيخ أنا ما بقي معي سوى ألف ليرة
-هذه ليست مشكلتي ، إما الغرامة أو السجن
- لا يا شيخ ادفع الغرامة
ومد يده وناول صاحب الحاجز الغرامة المالية ومضى سريعا فالوقت قد تأخر والشمس بدأت تميل للغروب وحدث نفسه قائلا: إن كنت قد فشلت أن أجلب كيلو من الكنافة لبهاء فلا أقل من أن أحضر له قطعة كنافة مما تبقى لدي من القطع المعدنية
من بعيد كان صاحب محل الحلويات يهم بإغلاق محله ولكنه لمح الأستاذ وديع يجري من بعيد فوقف يراقبه والألم يعتصره وأخذ يردد : لا حول ولا قوة إلا بالله ، اللهم الطف بالمسلمين
وما أن دخل الأستاذ وديع حانوت بائع الحلويات حتى بادره البائع قائلا : تريد قطعة كنافة كالعادة
هز الأستاذ وديع رأسه بالإيجاب ، وألقى للبائع بالقطع المعدنية التي تبقت معه وأخذ قطعة الكنافة وخرج من الدكان مسرعا ونظرات البائع المشفقة تتبعه
عندما خرج من المتجر كانت الشمس قد غابت وزاد في عتمة المكان وتجهمه الغيوم الكثيفة والمطر الشديد ، وكان الأستاذ وديع يمشي وحيدا والناس قد ركنوا إلى بيوتهم ، فجأة رن هاتفه الجوال ، اقشعر بدن الأستاذ وديع ، لم يكن البرد هو سبب هذه القشعريرة التي سرت في جسده ، فقد اعتاد على البرد ، ولكنه تفكر كيف يرن هاتفه وهو خال من البطارية والبطاقة ، أخرج الجوال من جيبه بحذر وقلبه فإذ به خال من البطاقة والبطارية بالإضافة إلى أنه مكسور ، نظر فإذ الجوال يرن والمتصل ابنه بهاء أجاب على الاتصال بحذر فإذ ببهاء يبادره ضاحكا : أبي لقد تأخرت كثيرا
-بهاء 000بهاء 000أهذا أنت
-أبي متى ستأتي
-بهاء ما هذه الجلبة التي حولك
-أبي أنا أكلمك من جوال أمي وأنا ألعب بالدراجة
-بهاء ماذا تقول 00بهاء كيف تلعب بالدراجة00بهاء000بهاء أنت 00أنت مبتورة قدميك
-أبي أمي تقول أن علي أن أنام مبكرا لأستيقظ صباحا إلى المدرسة فلا تتأخر أريد أن أكل الكنافة قبل أن أنام
-بهاء بني هل تمازحني ، بهاء ماذا تقول أنا لست في مزاج يسمح لي بالمزاح
من بعيد هناك صوت يقول : قل له أن لا يتأخر العشاء سيبرد
-بهاء من عندك ، من يكلمك
-إنها أمي يا أبي
-أمك ؟ 000أعطني 000اعطني أمك
-أمي أبي يريد أن يكلمك
في هذه الأثناء كان من السهل أن تميز صوت دقات قلب الأستاذ وديع المرتفعة كدق الطبول ، وبالرغم من شدة البرد وغزارة المطر فقد كان جبينه يتقطر عرقا
- وديع أين أنت لقد تأخرت كثيرا كل هذا الوقت من أجل أن تحضر كنافة
- وداد 00000وداد 000وداد هذا أنت ، وداد أنت لم تموتي
- لقد تأخرت يا وديع وبهاء عنده مدرسة مبكرا فمتى ستعود ؟
اختنق صوته وتحشرج بالبكاء وقال لها : وداد أنت لم تموتي ، وبهاء لم تبتر قدماه ، وداد أنتما بخير ، وداد أجيبيني
- لا تتأخر سننتظرك على العشاء ولن ينام بهاء حتى تعود
- وداد أنت بخير وبهاء بخير 000وداااد

اكتفت وداد بالضحك وأنهت المكالمة
وقف الأستاذ وديع جامد لا حراك فيه وعبثا حاول أن يعيد الاتصال ولكن كيف والجوال لا بطاقة فيه ولا بطارية وهو محطم ، هنا بدأ يجري ، يركض ويركض ويركض محاولا أن يسبق الريح ليصل بأسرع وقت لمنزله ، ، تارة يسقط ارضا ويمتلئ معطفه وحلا فيقوم ليتعثر من جديد ويقوم ليتعثر من جديد ، لا أحد يعلم إن كانت الأرض تتلقى المطر أكثر أم دموع الأستاذ وديع أكثر فقد تسابقت دموعه والمطر إنهمارا ،بقي على هذا الحال ومر من أمام حاجز الجيش الحر ولم يلتفت لهم ولم يقف عندهم بل ظل يجري دون التفات والذين بدورهم لم يوقفوه بل نظروا لبعضهم وضحكوا بشدة مشيرين إليه وظل يركض حتى مر من أمام حاجز جيش النظام ولم يلتفت إليهم وهم بدورهم لم يوقفوه بل ضحكوا ضحكات هستيرية ، ودخل حارته واتجه مسرعا بإتجاه البناية التي فيها بيته ووقف أمام البناية ونظر إلى الأعلى بإتجاه بيته ، نظر إلى الأعلى 000إلى الأعلى 000إلى الأعلى 00حتى ألتقت عيناه 00000بالسماء
طأطأ رأسه وأعاد نظره إلى الأسفل ليقع نظره على انقاض البناية التي سقطت عن بكرة أبيها
جثا على ركبتيه وهو يلهث ثم انفجر بنوبة هستيرية من البكاء ، واستسلم لنوبة طويلة من العويل والنحيب ، وبقي على هذا الحال حتى امتدت يد وأمسكت بكتفه ، التفت بسرعة خائفا فإذ بجاره أبو عمر يقف بجواره ، جثا أبو عمر على ركبيته بجوارالأستاذ وديع وقال له :
أستاذ وديع ، ما هذا يا أستاذ ، ارفق بنفسك يا أخي 00انظر إلى أين وصلت وماذا فعلت بنفسك 00انظر إلى ثيابك وإلى هيئتك 00إلى متى يا أستاذ وديع 00إلى متى ستظل تسمح لهم أن يسخروا منك 00ويستغلوا حالتك 00كلما أعطاك أحد المحسنين مالا لتشتري ثيابا جديدة وتصلح من شأنك تمضي إلى أولئك الأفاكين الذين يسخرون منك ويسلبون منك مالك مع أنهم يعرفون حالتك 000إلى متى يا أستاذ وديع 00متى ستدرك أن زوجتك رحمها الله قد ماتت جراء سقوط الصاروخ في البناية وأن ابنك بهاء قدبترت قدماه ولم يحتمل الألم والمرض فمات بعدها بمدة وجيزة
نظر الأستاذ وديع إلى جاره أبو عمر بنظرات شاردة ملئها الحيرة والضياع : نعم لقد ماتت وداد ومات بهاء بعدها
- يا أستاذ وديع لست وحدك من أصابته هذه المصيبة ، ها أنذا أمامك ماتت زوجتي أم عمر وأولادي الخمسة في ذات التفجير ولم أفقد عقلي ولم أجن
- نعم 00صحيح 00لقد ماتت زوجتك أم عمر وأولادك وانهدم بيتك كما انهدم بيتي
- نعم يا أستاذ وديع ، ولقد زدت على ألمنا ألما بما حل بك ، أنت يا أستاذ وديع تفقد عقلك ؟
لقد كنت أعلم من في الحارة وكان الكبار قبل الصغار يستفيدون من علمك وحكمتك فماذا حل بك يا أخي وإلى متى ستظل على هذا الحال ، عد لنا يا أستاذ وديع فنحن بحاجة إليك ، نحتاج علمك وحكمتك ، نحتاج أن ترجع إلى عقلك ورشدك من جديد ، الحارة تنتظرك يا أستاذ وهي بأمس الحاجة إليك خاصة في هذه الظروف
هز الأستاذ وديع رأسه وأخذ يحدق في الأرض وهو يتكلم قائلا :
نعم لقد ماتت وداد ومات بعدها بهاء وكل من كان في البناية ماتوا وأصبحوا تحت الأنقاض
نظر الأستاذ وديع إلى جاره أبو عمر والتقت عيناهما وأكمل حديثه قائلا :
ما زلت أذكر ذلك اليوم في كل جزئياته ، كان بهاء يلعب بالدراجة ووداد تعد العشاء وفجأة قال بهاء أنه يشتهي الكنافة فقررت أن انزل واشتريها له وطلبت مني وداد أن لا أتأخر حتى لا يبرد العشاء وودعتها ضاحكا وكان أخر عهدي بها أنها ضحكت لي قبل أن أغادر ، وما أن نزلت للشارع وابتعدت قليلا حتى جثا الصاروخ اللعين فوق البناية واسقطها ، أتدري يا أبو عمر إني احسدهم ، احسد وداد وبهاء وأتمنى لو كنت معهم ، أتمنى لو مت في ذلك التفجير لكنت ارتحت مما أنا فيه الأن
انفجر الأستاذ وديع باكيا وربت أبو عمر على كتفيه بمحاولة يائسة للتخفيف عنه
ولكن الأستاذ وديع أبعد يد جاره بلطف وقال بلهجة تحدي:
أتدري يا أبو عمر أنت صادق فيما تقوله ، إن قتلوا الزوجات والأولاد وهدموا البيوت فلا يجب أن يقتلوا فينا روحنا وعقلنا
-احسنت يا أستاذ هذا صحيح
- كلهم مجرمون ، كلهم رقصوا على جثثنا وشربوا من دمائنا ، كلهم يدعون الدفاع عنا وحمل همنا وكلهم كاذبون لا يهمهم إلا مصالحهم فقط
- صدقت يا أستاذ ، صدقت ، عد لنا يا أستاذ ، عد لنا واصرخ 00اصرخ في وجوه الظلمة جميعهم 00اصرخ في وجه من يقتلنا باسم الممانعة والمقاومة واصرخ في وجه من يقتلنا باسم الحرية والثورة واصرخ في وجه من يقتلنا باسم الدين والخلافة 00اصرخ يا أستاذ في وجوه كل الظلمة والقتلة
-نعم يا أبو عمر ، إنهم جميعهم مشتركون في الجريمة ، يخوضون حربا ليست حربنا ونحن الذين ندفع ثمنها
-الله أكبر يا أستاذ لم اسمع منك هذا الكلام من زمن بعيد ، لقد عدت لرشدك يا أستاذ وديع
-نعم علينا أن نعود لرشدنا ، كفانا جنونا ، كفانا استكانة للظلم ، كفانا استسلاما للمذلة ، كفانا خنوعا وخضوعا لشياطين الشرق والغرب الذين جعلونا احجار شطرنج يلعبون فينا لعبتهم القذرة
-والله يا أستاذ ما فرحت منذ زمن بعيد كفرحتي بأن اسمع منك هذا الكلام ، مرحبا بعودتك يا أستاذ والحمد لله على سلامتك ، قم الأن فقد اصابك الكثير من المطر والتعب وهلم إلى غرفتك في المسجد حتى تأوي لها ، وغدا صباحا سنمضي سوية لشراء ملابس جديدة لك وما هي إلا أيام وتعود لمدرستك من جديد ، قم يا أستاذ والحمد لله على سلامتك
بعد أن أطمئن أبو عمر على الأستاذ وديع ومضى معه إلى غرفته المظلمة والصغيرة في المسجد التي يقطن بها منذ وقوع الحادثة أغلق الباب بهدوء وقابل خادم المسجد الذي سأله عن حال الأستاذ وديع فأجابه : أبشرك فقد عاد الأستاذ وديع لرشده
-الحمد لله لقد كنت أعلم أن ما يمر به حالة طارئة لا بد أن يبرأ منها ، فمن كان مثل الأستاذ وديع من الصعب أن يجن أو يستمر على هذا الحال
-الحمد لله منذ زمن بعيد لم نفرح وعودة الأستاذ وديع لعقله أمر يستحق الفرح والحبور
0000
في تلك الغرفة المظلمة والصغيرة كان الأستاذ وديع يغط بنوم عميق وقد تدثر بغطاءه بعد أن نال منه الجهد والتعب والمطر ، فجأة وبدون مقدمات فتح عينيه وجحظ بهما ورسم على شفتيه ابتسامة صغيرة وتمتم بصوت خافت وقال :
لاتحزن يا بهاء 0000لاتحزن يا بني 0000غداً سأشتري لك الكنافة
السلام عليكم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق