شماليات

مرحبا بكم في مدونتي المتواضعة التي أجمع فيها زبدة ما كتبته في الشبكة العنكبوتية كما وأنوه أن حقوق النشر والنقل محصورة لكاتب هذه القصص والمقالات ولا أحل أحدا أن ينقل شيء من دون ذكر المصدر والاشارة إلى كاتبها أبو ذر الشمالي

الاثنين، 29 فبراير 2016

المشوار الأخير




بالكاد استطاع عدوان أن يستيقظ وينهض من سريره ، كان متعباً ويشعر بألم شديد في رأسه ، مما أضطره أن يجلس على طرف السرير ويفرك جبينه بأطراف أصابعه لعله يذهب عنه هذا الصداع الفظيع ، بدأ عدوان يستعيد ماحدث معه بالأمس ويتذكر ماجرى معه فقال يحدث نفسه :
يااه ، كم كانت الليلة الفائتة كثيبة وحالكة ، لأول مرة في حياتي أواجه أبي مواجهة عنيفة بهذا الشكل ، لقد تلفظت بكلمات نابية في حقه وحق أمي ، صراحة لم أكن أحب أن تتطور الأمور بهذا الشكل ، ولكنها تطورت بشكل سريع ومريع ، أذكر أني قد دخلت البيت خلسة حتى لايشعر بي أحد وتوجهت نحو غرفتي ولكني تفاجأت بأبي يصيح من ورائي ، وعندما اقترب مني وشم رائحتي عندها أدرك أني احتسيت الخمر فجن جنونه وصفعني وبدأ ينهال علي بالسباب والضرب ، أذكر أني واجهته وقلت له كلمات قاسية وهددته وأمي أني سأرمي نفسي من الشرفة وأنتحر ، طبعاً أنا لم أكن جاد بتهديدي هذا ولكن أبي إعتقد أني أتكلم بشكل جدي فكف عني ومضى إلى غرفته ، بصراحة أنا معذور فمن أين لي أن أعرف أني سأتفاجأ بأبي مستيقظاً في تلك الساعة المتأخرة ،لاسيما في الليلة الفائتة، فلم يكن يوم أمس يوماً عادياً فقد توفي عمي العجوز مساءً بعد أن تدهورت صحته بشكل مفاجئ ونقلوه إلى المشفى ، وبناء عليه فقد قلت في نفسي أني لابد أن استغل فرصة أن أبي مشغول عني بعمي المتوفى وسوف لايشعر بي إذا تأخرت في السهرة ، على الأقل أخذ راحتي هذه المرة ففي العادة يستقبلني أبي بنفس الموال ، يا بني ألتزم بصلاتك ، يابني الزم دروسك ، يا بني انظر لأخيك راشد وكن صالحاً مثله ، يعني اسطوانة مشروخة حافظها عن ظهر غيب فلذلك استغللت الفرصة واتصلت بالشلة وأمضينا معاً سهرة رائعة ، كانت حمراء بكل معنى الكلمة ، وما كنت أضع في حسباني أن أعود إلى المنزل فأرى أبي في وجهي وكأن موت أخيه لم يعطله عن ازعاجي وملاحقتي
انتفض عدوان وقال : موت أخيه ؟؟ أخيه !1 يعني عمي ، يااه لقد تأخرت كم الساعة الأن ، لابد أن أمضي لبيت عمي وأحضر مراسم الجنازة فأنا لا أريد أن تتوتر الأمور بيني وبين أبي أكثر مما هي متوترة أصلاً
لابد أن أصحو جيداً وأغسل وجهي ، ولكن مالي أرى جسمي مبللٌ بشكل غير معقول ، يبدو أن العرق كان يتصبب من جسمي بغزارة أثناء نومي دون أن أشعر
خرج عدوان من غرفته ولم يرى أحد من أهله فعلم أنهم سبقوه إلى بيت عمه ، ولكنه ما أن خرج من البيت ونزل إلى الشارع حتى تفاجأ بجمهرة من أقاربه وجيرانه يقفون على الرصيف وقد بدا عليهم التأثر والحزن ، فقال في نفسه :
مالي أرى أبي وأخي راشد وأبناء عمي وأبناء عمومتي والأخرين قد تجمعوا هنا ، لقد كان من المفروض أن يذهبوا لبيت عمي ليشيعوه من هناك ، آه تذكرت لقد أوصى عمي أبنائه أنه إذا مات أن يجعلوا تشييعه من بيت أخيه ، أي أبي ، هه كم أن عمي العجوز هذا رجل غريب الأطوار يعني مالفرق عنده إن شيعت جنازته من بيته أو من بيت أبي ، حقاً للعجائز عقول عجيبة ، هاهو ذا أبي يقف مع جيران لنا يعزونه بأخيه ، لن أذهب الأن وأواجهه فأنا أخاف أن يعنفني أمام الناس ويعاود شتمي وتقريعي وهذا أمر يسبب لي الإحراج ، سأقف مع أخي راشد ولكن أين هو ؟؟
هاهو ذا يقف مع أبناء عمي ويقف معهم ابن عمتي السمج الذي لا استلطفه بالمرة ، فهو كل ما يراني يعمل لي محاضرة دينية ، ويبدأ مسلسل النصائح الذي لاينتهي ، لا أطيقه ولا أطيق منظره خصوصاً عندما يكلمني ولحيته تهتز مثل الشراع في ليلة عاصفة من تحت ذقنه ، ويأمرني بالصلاة و يحثني على الإلتزام وأن علي أن ابتعد عن رفقاء السوء ، كم اكره هؤلاء المتدينيين الذين ينظرون لك نظرة استعطاف ويبدأون بنصحك وتراهم يتكلمون معك وقد رسموا ابتسامة ساذجة على محياهم ويسبلون لك في أعينهم ويطأطأون روؤسهم وكأنهم عذارى في خدورهن ، أف منهم ومن اسلوبهم المقيت ، سأقف هنا ولن انضم إليهم فإني أخشى أن يستغل ابن عمتي موت عمي ويراها فرصة سانحة لكي يمطرني بنصائحه السمجة ويذكرني بالموت والإستعداد له والقبر ونزوله وما إلى أخره ،
حتى أخي راشد لقد تغير كثيراً ولم يعد راشد الذي أحبه ، فقد أثر به ابن عمتي فصار يصلي وابتعد عن شلة الإنس والفرفشة وصار من جماعة جزاك الله خيراً
أين راشد الذي كنا نمضي معاً سهرات حمراء مع بنات الهوى والكأس والراح ، لقد تغير وأقلع عن كل هذه العادات الرائعة والأيام الجميلة منذ أن صاحب ابن عمتي هذا ، مسكين أنت يا راشد تضيع زهرة شبابك بأن تحرم نفسك من الملذات ، يا أخي ما زلنا شباب والمستقبل أمامنا والأيام تنتظرنا ولما نكبر نبقى نتوب والله غفور رحيم .
نظر عدوان إلى ساعته وتأفف قائلاً:
أف ، الساعة ما زالت العاشرة صباحاً ، هذه أول مرة أضطر أن استيقظ في هذه الساعة المبكرة ففي العادة لا أستيقظ إلا بعد غروب الشمس ، سامحك الله ياعمي يعني لم يخطر في بالك أن تموت إلا في هذا اليوم ، لقد عكرت صفو مزاجي يا رجل وأيقظتني من أحلى نومة ، ولكن لابأس كلها ساعة أو ساعتين وتنتهي مراسم الجنازة وأعود إلى فراشي الوثير ، فلا بد أن أنام قليلاً فالليلة عندي موعد مع صاحبتي فوفو ولاينبغي أن أتأخر ، لابد أنها الأن غضبانة مني فقد كان موعدها بالأمس ولكني آثرت أن أمضي ليلتي مع سوسو ، الحمد لله أن عمي قد مات فأنا استطيع الأن أن أتحجج بموت عمي حتى أبرر لها عدم مجيئي بالأمس .
يخرج عدوان هاتفه النقال من جيبه ويكتب رسالة
حبيبتي فوفو لقد مات عمي ولم استطع أن أتي بالأمس ، الليلة سأعوض مافاتنا يافاتنة قلبي ومعشوقة فؤادي
همم، ارساااال ، ها قد انتهينا من فوفو ، صراحة أنا لا أستلطفها و قلبي متعلق بسوسو ، أما فوفو هذه فهي مملة وأنا أفكر أن أتركها وأبقي علاقتي مع سوسو فقط ، سوف أرسل لها رسالة أخبرها عما أنا فيه من الضيق فقد اشتقت إليها كثيراً
امم ، قائمة الرسائل ، رسالة جديدة ، أمم ، نعم
حبيبتي سوسو أنا الأن في جنازة عمي ولك أن تتخيلي كم الجو كئيب ولكني افكر في سحر عيونك لأساعد نفسي على تحمل هذا الجو الملل، ساتصل بك لاحقاً عندما أخرج من الكآبة
أعاد عدوان جهازه النقال إلى جيبه بعد أن كتب الرسالتين وماهو إلا قليل حتى حضرت الجنازة فقال في نفسه :
هاهي جنازة عمي قد حضرت والأن سوف يأخذونه للمسجد ويصلوا عليه ، كيف سأخرج من هذا المأزق فأنا لست معتاداً على دخول المسجد ثم أني حتى لا أعرف كيف يُصلى على الميت ، ومن جانب أخر فأنا لست على طهارة ولا يمكنني أن أصلي ، أفضل شيء أن أمشي مع الناس وأتظاهر أني سأدخل معهم المسجد ثم عندما نصل هناك أبقى خارجه بينما يصلي عليه الناس ، ولكن مالي أرى أخي راشد يبكي بكل هذه الحرقة على عمي العجوز ، يعني رجل بلغ من العمر الثمانين ماذا يرتجى منه وهل كان يتوقع أن يعيش أكثر من ذلك ، ليس راشد فحسب بل وأبناء عمومتي وأقربائي مابالهم يبكون كل هذا البكاء ، حتى جارنا أبو محمود أراه يبكي هو الأخر ، وماحشر أبو محمود بيننا ، أساساً أبو محمود لايعرف عمي إلا معرفة سطحية فماباله يربت على كتف أبي ويبكيان سوية ، الظاهر أن الرجل اندمج مع المجموعة واصابته عدوى البكاء ،فعلاً إنه النفاق حيث يتظاهرالناس بالبكاء والحزن على عمي ، وليس أحد جدير بالبكاء عليه إلا أبي فهو أخوه ولابد أن يبكي الأخ أخاه .
والأن بعد أن وصلنا إلى المسجد ودخل الجميع للصلاة على عمي سأبقى واقفاً هنا وإذا سألني أحد لماذا لم تدخل للمسجد سأتذرع بأي سبب ، ولكني لا أعتقد أن أحداً سيسألني فالجميع يتجاهلونني ويمرون أمامي دون القاء التحية ، وكأنهم لايرونني ، أخشى أن يكون الناس قد عرفوا ماجرى بيني وبين أبي بالأمس ، ولذلك فهم يتجاهلونني ، لن أهتم بهم ،أساساً كل هؤلاء الناس لايروقونني ولا أحب أن أجتمع بهم ولكنها الظروف هي التي جمعتني بهم ، لا بأس كلها ساعة وننتهي من هذا المشوار الكئيب وأعود إلى حياتي المعهودة واللذيذة
هاقد خرجوا من المسجد ، لابد أنهم الأن سيتوجهون إلى المقبرة لدفن عمي ، سيكون من المناسب أن أمضي معهم فأنا لا أريد أن يرى أبي أن الذي يقف معه في محنته هو أخي راشد فقط ، بل أريد أن يراني أنا أيضاً أقف إلى جواره فأنا لا أريد أن تتسع دائرة الخلاف بيني وبينه أكثر من ذلك ، صحيح أنه ساخط مني ولكنه لابد أن يرضى ولابد أن أمي سوف تصلحني معه فهي دوماً تفعل هذا.
وما أن وصل إلى المقبرة ورأى القبر حتى قال :
ياللهول ماهذا القبر الموحش والمظلم ، كان الله في عونك يا عماه كيف ستنزل إلى هذا القبر ، لابد أن أقف بعيداً فأنا لا أحب هذه المناظر ثم أني000ثم أني00000ثم0000000
وهنا تجمدت الدماء في عروق عدوان فقد رأى مالم يخطر له على بال ، لقد رأى عمه العجوز يقف متوكأ على عصاه وهو يواسي أباه ويعزيه وأبوه يقول :
لا أدري كيف حصل هذا يا أخي ، لا أدري كيف وصلت الأمور بابني عدوان أن يزني ويشرب الخمر ويبتعد كل هذا البعد عن دين الله ، لقد ، لقد ضربته عندما دخل المنزل وهو سكران فهددني وأمه أنه سيرمي بنفسه من الشرفة فقلت له وقد تملكني الغضب : ليتك تفعل ذلك أيها العاق وتريحني منك ومن عقوقك ، ولكن ، ولكن لم يخطر ببالي أنه سينفذ وعيده
00000000000000000000000000
ماذا00ماذا يقول أبي000من الذي مات000وكيف عمي المتوفى يقف بجانب أبي000أين أنا000هل هذا كابوس000نعم نعم0000لقد بدأت أتذكر 00
ويتذكر عدوان عندما دخل الليلة الفائتة إلى المنزل وكان يغني ولم ينتبه لأبيه الذي كان ينتظره
الحياااة حللوه بسس نفهممها الحيااة غنوه ما احلى انغااامها
يصيح الأب من خلفه: ولد ياعدوان
نعم يا سوسو
سوسو من ياولد تعال هنا وكلمني
ماذاا تريد ياا00ياا000ماذا كان اسمك انت00نعم تذكرت ماذا تريد يا أبي
أين كنت إلى هذه الساعة المتأخرة ألم تخبرك أمك أن عمك نقلوه أولاده إلى المشفى فلماذا لم تأتي لزيارته
نعم نعم لقد أخ 00 لقدأخبرتني أمي أن عمي في المش00في المش00في المشش00في المشتسفى وهل مااات
قبحك الله على هذا الكلام أيها الولد ، إن عمك بخير وقد تماثل للشفاء ولله الحمد وخرج من المستشفى بعد أن خضع للعلاج
طيب00حسناً00غداًصباحاًبعد العشاء أبقى أروح وأزوره في 00في 00هناك 00عند00عند00ما اسمها تلك00
مابك يا ولد تترنح أمامي ولاتقف مستوياً
أنا 00أنا أقف مستوي يا أابي ، أنت الذي تتمايل أمامي مثل 00مثل غصن البان ، مابك يا أبي تترنح بل الغرفة كلها تترنح 00وكأن زلزالاً يقع
تعال هنا يا ولد ، مابك ، ماهذا ، ماهذا ، الله أكبر أنت سكران ، لقد شربت الخمر أيها المأفون
هذا ليس خمراً يا أبي هذه اسمها مشرووبات رووووحية
الله أكبر ، في بيتي أيها العاق ، في بيتي أيها الملعون ، تدخل بيتي وأنت معاقر للخمر ، لعنة الله عليك ، غضب الله عليك في الدنيا والأخرة
اييييه ، أنت لاتحسن سوى اللعنات والغضب ، اغضب كماتشاء ، ماعاد يهمني غضبك
ماذا تقول أيها الولد العاق ، قاتلك الله ، قاتلك الله ياعدوان ، ياعدو نفسه
أم عدوان : هيا ياعدوان ادخل غرفتك الأن ، هيا يا ولدي
عدوان : لن أدخل حتى أفهم هذا الرجل أن عليه أن يكف عن مضايقتي والتدخل في حياتي
أبوه : ماذا تقول ، كيف تجرأ على مخاطبة أبيك بهذا الشكل ، أنت لست ابني ولايشرفني أن يكون عندي ولد مثلك
عدوان : بل أنا الذي لايشرفني أن يكون لي أهل مثلكم ، أنت تحب راشد أكثر مني لأنه يطيعك ويعمل كل ما تأمره به ، أما أنا فاسمع أيها الرجل ، أنا لن أصلي ولن أصوم وسأعاقر الخمر وسأزني ، فهذه حياتي وأنا حر فيها ولن ينزل في قبري أحد منكم فكفوا عني ودعوني وشأني
أبوه : لقد تماديت إلى أبعد الحدود أيها الولد العاق والله لأبرحنك ضرباً أيها الملعون
تضربني يا أبي ، تمد يدك علي ، والله لأرمين نفسي من هذه الشرفة
ليتك تفعل أيها الولد العاق وتريحني منك ومن عقوقك
يندفع عدوان نحو الشرفة وتحاول أمه أن تمنعه ولكنه يدفعها ويرمي بنفسه من الشرفة
00000000000000000000
نعم لقد تذكرت ، لقد رميت نفسي من الشرفة ولكني ، ولكني مازلت حياً لم أمت ، وها أنذا أقف على قدمي فكيف يقول أبي أني مت ، لا ، سأمضي سريعاً الأن إلى أبي وأقبل يديه واعتذر منه لعله يسامحني عما بدر مني ، أبي ، يا أبي أرجوك سامحني ، أرجوك يا أبي ،أنا عدوان يا أبي ، مابك لاتلتفت إلي ، أبي أنا عدوان ،سامحني أرجوك ، سامحني أنت وأمي ، سامحاني ، أعدك يا أبي أني سأكون ولداً مطيعاً ، سأصلي وسأجتنب المعاصي والذنوب وسأبتعد عن صحبة الأشرار ، وسأكون مثل راشد بل أني سأكون أفضل من راشد أبي أرجوك اسمعني والتفت إلي ، أبي أنا لم أمت
راشد أخي أنا أخوك عدوان لم أمت ، ها أنذا أقف بينكم ، أخي راشد ارجوك قل لأبي أني لم أمت ، راشد مابك أنت الأخر لا تسمعني ، راشد أتوسل إليك يا راشد ، سأستمع لنصائحك يا أخي أقسم لك ، لن أسخر منك بعد الأن ، أرجوك يا راشد
ابن عمتي أنت الذي تستطيع أن تخرجني من هنا ، أرجوك أخبرهم أني لم أمت ، أرجوك يا ابن عمتي أقبل لحيتك الطاهرة ، أتوسل إليك ، لاتدعوني هنا ، ليتني استمعت لنصائحك يا ابن عمتي ليتني ماتهكمت عليك
مابي ، مالي لا أستطيع الحراك وقد خانتني قوتي ، ويحكم دعوني ، دعوني ، أين تذهبون بي ، أنا لم أمت ، أبي أدركني يا أبي ، راشد أنا أخوك يا راشد لاتتركني هنا وحدي
راشد : كم نصحتك ياعدوان ، كم نبهتك يا أخي أن العمر قصير مهما طال والأجل قريب مهما بعد ، ولكنك كنت تسخر من نصائحي ، والأن ما النتيجة ، انتحرت بعد أن رميت نفسك من الشرفة وقد كنت معاقراً للخمر وقد عدت من عند إمراءة سوء ، سامحك الله يا أخي كم ظلمت نفسك ، يؤلمني أن أرى وجهك وقد تحطم وتملؤه الدماء ولكن أنت الذي اخترت طريقك ومصيرك ولانقول إلا حسبنا الله ونعم الوكيل
أحد الحاضرين : راشد أجعله يستلقي على شقه الأيمن واجعل وجهه على التراب
راشد: حاضر ياعماه
عدوان : راشد أرجوك لاتهيل علي التراب ، راشد أرجوك ، راشد ، يا رب ، يارب ، يارب ، يارب ارجعون لعلي أعمل صالحاً ترضاه ، رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً ترضاه


كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ ﴿٢٦﴾ وَقِيلَ مَنْ ۜ رَاقٍ ﴿٢٧﴾ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ ﴿٢٨﴾ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ﴿٢٩﴾ إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ﴿٣٠﴾ فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّىٰ ﴿٣١﴾ وَلَٰكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ ﴿٣٢﴾ ثُمَّ ذَهَبَ إِلَىٰ أَهْلِهِ يَتَمَطَّىٰ ﴿٣٣﴾ أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ ﴿٣٤﴾ ثُمَّ أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ ﴿٣٥﴾ أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى ﴿٣٦﴾ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ ﴿٣٧﴾ ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ ﴿٣٨﴾ فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ ﴿٣٩﴾ أَلَيْسَ ذَٰلِكَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَىٰ ﴿٤٠﴾

السلام عليكم

دراجة براء


بسم الله الرحمن الرحيم
أسدلت أم البراء ستار نافذتها وقد راعها السكون الذي خيم على غزة وبشكل فجاءي ، بات من الغريب أن تمر ساعة ولايقصف اليهود فيها غزة ، انقبض قلبها من هذا السكون المريع الذي يسبق العاصفة ، وإلى جانبها جلس براء القرفصاء وهو يحاول بعينيه لفت إنتباه أمه ولكن الغريزة وحدها كانت تشعره أن الأمر جلل لذلك فقد انكفأ على نفسه وماعاد يشاغب ويلعب كعادته
ما لبثت أمه أن شعرت به بعد أن أمضت ردحاً من الزمن غائبة عنه بل عن الوعي في ظل هذا السكون المطبق ، نظرت إليه نظرة ملئها الحنان فاستغل براء الفرصة فأطلق للسانه العنان:
يمه ، إمتى بيرجع أبوي
أجابته : يمه ياحبيبي لقد أخبرتك أن أبوك أستشهد
قال لها : لا يمه أبي ما أستشهد ، أبي وعدني أنه سيرجع وسيشتري لي الدراجة التي وعدني بها ، ألم تسمعيه يمه ، ألم تكوني حاضرة عندما ودعنا ليلتحق بالقسام وضمني كيف همس في أذني أنه سيعود ومعه الدراجة التي وعدني بها
أما أم البراء فقد اكتفت بهز رأسها ، فقد كان من الصعوبة بمكان أن يدرك ابنها ابن الأعوام الخمس أن أبوه لن يعود ، ثم إن دموعها التي جفت من كثرة ما أغدقتها من مقلتيها ماعادت تسعفها بالمزيد ، لذلك فقد آثرت الصمت كصمت هذا الجو المخيف
وماقطع هذا السكون إلا صوت براء : أمي جعان
خسا الجوع يمه ، نظرت حولها فما وجدت إلا كسرة خبز يابسة فناولته إياها ، تناولها براء وبدأ يقضمها بشراهة
ترى مالون الدراجة التي سيشتريها لي أبي ، أريدها أن تكون حمراء مثل لون الدراجة التي أشتراها العم يوسف رحمه الله لإبنه مروان ، وأريد أن يكون فيها جرس وزينة000
وماقطع إسترساله بالكلام إلا صوت أمه : كفى يا براء كفى ، أبوك استشهد ، قتله اليهود البارحة ولن يعود كفى يا بني كفى
وعادت الدموع لتهطل من عيني أم البراء وكأن كلام براء قد قلب عليها المواجع ، ولو أنها لم تكن بحاجة أصلاً لأي شيء يقلب عليها المواجع ، ففي غزة كل شبر فيه مواجع وأنين
براء: يمه إنت زعلانة مني ، أنا زعلتك بإشي
أجابته : يمه قوم ننام ، إنت من يوميين ما دقت طعم النوم
أيوه يمه والله نعسان بس أبوي تأخر هو وعدني وأنا ما راح أنام حتى يرجع أبوي ويجيب لي الدراجة
طيب يمه تعال في حضني ولما بيرجع راح أصحيك
وضع براء رأسه على صدر أمه وشعر بحنان كبير وإطمئنان افتقده ولو بالغريزة منذ أسبوعيين ، من أول طلقة أطلقها اليهود على غزة وبراء ما عاد يشعر بالأمان شأنه شأن أطفال غزة
قال براء : يمه أحكي لي حكاية مثل ماكنت تحكيلي من زمان
حاضر ياحبيبي ، سأحكي لك حكاية ، كان يامكان في قديم الزمان ، كان هناك عشرة أخوة يسكنون بجانب بعضهم البعض وفي يوم جاء واحد غريب لئيم وهجم على أحد الأخوة وطرده من بيته ونهب ماله وقتل أولاده الصغار ، وظل يعتدي على هذا المسكين ليل ونهار دون شفقة أو رحمة
براء : وكيف هذا يمه ، أليس لهذا الرجل تسعة أخوة كما تقولين
نعم يا بني
طيب ماذا فعل هؤلاء الأخوة لنجدة أخوهم
لقد خرجوا ياحبيبي على بكرة أبيهم وصرخوا بوجه الغريب وقالوا له أنهم لايرضون بذلك
ثم ضربوه يمه
لا يا حبيبي
إذا طردوه يمه
لا يا حبيبي
إذا دافعوا عن أخيهم يمه
لا يا بني
إذا ما فائدة صراخهم في وجه الغريب
والأنكى من ذلك يا بني أن أخوه الأكبر وضع يده في يد الغريب اللئيم
أرجوك يمه لاتحكي لي هذه الحكاية فهي حكاية سخيفة ، احكي لي حكاية واقعية ولاتحكي لي حكاية مستحيل أن تقع أو تحدث
ابتسمت أم البراء وقالت له : حاضر يا حبيبي سأحكي لك قصة من التاريخ
أعرف قصة المعتصم حكيتيها لي مائة مرة حافظها عن ظهر غيب
لايا بني سأحكي لك قصة ما سمعتها من قبل ، منذ زمن بعيد يا براء وبالتحديد في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، كانت قريش تعادي الرسول وتضمر له الشر وفي مرة من المرات قرر كفار قريش أن يجمعوا من كل قبائل العرب فرساناً وينقضوا إنقضاض رجل واحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضيع دمه بين القبائل ولايستطيع بني هاشم أن يطلبوا دمه من جميع قبائل العرب ، وبالفعل اجتمعوا ليلاً أمام بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيادة أبي جهل عدو الله ورسوله ، وعندما طال فيهم المكوث وهم ينتظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرج عليهم ليقتلوه جاء أحد هؤلاء الفرسان لأبي جهل وقال له
: يا أبا الحكم علام ننتظر محمداً في هذا البرد القارس حتى يخرج ، لم لانتسور عليه بيته ونقتله في فراشه
فقال أبو جهل عدو الله ورسوله
أبو جهل يا براء
أبو جهل يا براء عدو الله ورسوله قال
براء : نعم يا أمي ماذا قال
لقد قال لذلك الفارس : ثكلتك أمك ، أوتتحدث العرب أن أبا الحكم روع بنات محمد وهن في خدورهن
نعم يا براء ، نحن ماعدنا نريد حكاما مثل أبي بكر وعمر ، نحن نريد حكاما عندهم نخوة مثل أبي جهل ، يامن تغلقون في وجوهنا المعابر ، يامن تحاصروننا مع اليهود ، يامن وضعتم أيديكم بأيدي اليهود أليس لكم في أبي جهل عبرة ، ويحكم أعجزتم أن تكون عندكم نخوة مثل نخوة أبي جهل
وماقطع كلام أم البراء إلا صوت قذيفة من بعيد ولكنها كانت كفيلة أن تدخل الفزع إلى قلب براء الذي التصق بأمه حتى بات يشعر بنبضات قلبها الغاضب ، ربتت على رأسه ومسحت شعره وقالت له
لاتخاف يمه ، هيا نام على صدري
وبعد أن خيم السكون مرة أخرى همس براء في صوت خفي
يمه صحيح أبوي استشهد
أيوه يمه استشهد
يمه أنا ماعاد بدي الدراجة أنا بدي أبوي يرجع ويلعب معاي متل زمان
نام يمه نام
يمه حضنك دافي وأنا بردان ، من زمان ماشعرت بالدفئ لاتبتعدي عني يمه
حاضر يمه أنا بجنبك ما راح أتركك
وما راح تتركي اليهود يكتلوني
لايمه لاتخاف
يمه أنا خايف
لاتخاف يمه
يرفع رأسه براء يرى أبوه وقد عاد ومعه الدراجة التي وعده بها
يقفز فرحاً : ابوي أبوي عاد يمه ومعه الدراجة
يضحك الأب بوجه براء ويشير له تعال يا بني
أبوي يمه رجع ومعه الدراجة اللي وعدني بيها ، شفتي يمه أبوي ما خلف وعده لي
الأم خائفة : يمه صوت الطائرات قريب جداً
يمه ماقلت لك إن أبوي وعدني أنو راح يشتريلي الدراجة
أبوك استشهد يمه
لايمه أبوي عاد مالك شامة ريحته ، ما أروعها من ريحة وهذا اللون الأحمر القاني اللي مخضب لحيته
يمه أبوك مات
لايمه أبوي عاد وبدو ياخدني معاه
صوت الطائرات فوق راسنا
يمه أنا رايح مع أبوي
لا يمه إذا كنت رايح فخدني معاك فلا خير في عيشة تكالب علينا فيها القريب والبعيد
000000000000000000000
وهناك 00هناك بعيد جلس أبو براء وأم براء وبراء يضحكون وركب براء دراجته وطار فيها تحت عرش الرحمن في حواصل طير خضر ، هناك جلسوا في سرور حيث لاطائرات تقصف ولا معابر تغلق ولا عرب يحتجون ، هناك جلسوا في سرور وحبور تحت رحمة الله وفي كنف الرحمن الرحيم ، يضحكون وعلى الأرائك ينظرون هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون

السلام عليكم

طوق الياسمين


أعتاد وديع كلما سنحت له الفرصة بين الفينة والأخرى أن يخرج من مدرسته بعد انقضائها ويمر على بائع الياسمين ليشتري منه عقداً من الياسمين ويمضي به إلى أمه ويهديها إياه ، ومع علمه أنه عند عودته إلى المنزل فإن زوجة أبيه سوف تمطره بوابل من التعنيف والكلمات القاسية وقد يصل الأمر إلى حد الضرب ولاتكتفي بهذا فحسب بل إنها تنتظر عودة أبيه مساء إلى البيت لتألبه على وديع ليعاود الأب ضربه من جديد ، ومما يتبع هذا من حرمان من الطعام ومن اللعب مع ضرار ابن زوجة أبيه ، وما يسببه هذا من ألم نفسي وجسدي لوديع ولكنه مع كل هذا كان يغض الطرف ويذهب لأمه لإهدائها طوق الياسمين الذي كان يعلم أنها تحبه وتحب رائحته 0
لم يكن وديع يستطيع أن يمتنع عن زيارة أمه التي غادرت المنزل منذ ثلاث سنوات وحلت مكانها إمرأة أخرى جاءت ومعها ابنها ضرار ، كان وديع يراها مثالاً حياً للشر وما كان يستطيع أن يتقبل فكرة وجودها عوضاً عن أمه ، ومع أن أبيه أمره مراراً وتكراراً أن يعتبرها مكان أمه إلا أنه كان عاجزاً عن ذلك وقد عجز حتى أن يناديها ( يا أمي ) فلم يكن يستطيع أن يتخيل أن هناك إمرأة ممكن أن تحل مكان أمه ، ولأن لكل واحد حظ من اسمه فقد كان وديع وديعاً جداً وكان مستسلماً لجبروت زوجة أبيه ولم يكن حتى يستطيع أن ينفك من قسوتها أو أن يعترض على المحاباة الواضحة بينه وبين ابنها ضرار ومع كل هذا ومع أنه مسالم للغاية ولكنه لم يكن يسلم من كراهية زوجة أبيه له التي كانت ترى في عينيه صورة ضرتها والتي كانت تغار منها حتى مع عدم وجودها في المنزل
من أجل هذا وللخروج من قسوة الحياة التي يحياها فقد كان وديع يخرج من مدرسته كلما سنحت له الفرصة ويغدو ليشتري طوق الياسمين ويمضي به إلى أمه ويجلس عندها ساعة أو ساعتين تنسياه كل مآسي الحياة وعذاباتها صحيح أنه لم يكن يخبرها بما يعانيه ولم يكن يحدثها بما يلاقيه بل كان يتعمد الكذب عليها ويعطي لها انطباعاً أنه سعيد ومسرور في حياته وقد كان يفعل هذا لرغبته أن لا يدخل إليها الحزن والقلق ولإعتقاده أنها بذلك ستكون مسرورة ومطئنة عليه0
في هذه المرة بالذات كان خوف وديع من الذهاب لأمه كبير جداً فقد توعده أبوه أخر مرة أنه سيضربه ضرباً مبرحاً بالكرباج إذا عاود الذهاب إليها ، ولأنه يعرف أن أباه صادق بوعيده فقد بقي شهراً كاملاً ممتنع عن الذهاب ولكن حنينه لأمه قد زاد ولوعة الشوق قد تمكنت منه ولم يستطيع مكابدة الشوق والحنين وكذلك أمه قد اشتاقت له ولكلامه العذب ولنبرة صوته الحنون واشتاقت لشم رائحته حالها كحال كل الأمهات اللواتي يعشقن روائح أبنائهن ، وما كانت رائحة الياسمين التي تحبها أقل من عبق رائحة ابنها وديع الذي فارقته منذ ثلاث سنوات ويعيش الأن مع أبيه وزوجته وابنها ضرار0
ومما زاد من خشية وديع ومما سبب له الذعر أن أخاه المفترض ضرار قد رآه وهو يشتري عقد الياسمين فناداه وهو يبتسم ابتسامته الخبيثة المعهودة :
وديع ، تريد أن تذهب لعند أمك ، والله لأخبرن أمي بذلك0
وعبثاً حاول وديع أن يتوسل لضرار ويرجوه أن لا يخبر أمه ولكنه يعرف ضمنياً أن كل توسلاته ستذهب سدى وأن ضرار سيخبر أمه ، فضرار يتمتع دوماً عندما يشكو وديع ويشعر بنشوة سادية طفولية وهو يرى وديع يُضرب ضرباً مبرحاً على يد زوجة أبيه أو أبيه ، ويبتسم ابتسامة خبيثة وهو يستمع لصراخات وديع وتوسلاته لأبيه ولزوجة أبيه أن يكفا عن ضربه
مع كل هذا ومع أن وديع تردد قليلاً في الذهاب ولكن لوعة الشوق غلبته فقرر المضي في الذهاب لأمه 0
في طريقه إليها راح وديع يسترجع تلك الأيام الخوالي السعيدة التي كان يحياها مع والديه ، ورجعت به ذاكرته إلى أيام ضحكاته مع أمه وأبيه والحنان والدلال الذي كان يعيش فيه ، كان ما يزال يذكر حضنها الدافئ وكيف كان لا يرضى أن ينام إلا إذا كانت بجانبه تحكي له حكاية ما قبل النوم وكيف كانت تداعب شعره بيدها وكيف كان يغفو مطمئنا وهو يترنم بالإستماع لنبضات قلبها ، وماكان يتصور أن ينقلب الحال إلى ما آل إليه ، وأن تدير له الدنيا ظهرها قبل أن يشبع من إقبالها عليه ، ما كان يتخيل أن أبوه الذي كان يمطره بالحنان والمحبة سينقلب عليه هكذا و يتنكر له بعد كل العطف الذي كان يغدقه عليه ، لقد استطاع وديع برغم سنه الصغير أن يدرك أن أباه يفضل ضرار ابن زوجته عليه ، ولم تفلح مبررات أبيه وزوجته بأنهما إنما يقسوان عليه من أجل تربيته ولمصلحته ، فالواقع غير ذلك ، راح ربيع يتذكر كيف أن أباه انهال عليه بالضرب لأنه أضاع مسطرته في المدرسة وبعد عدة أيام اكتفى بأن ابتسم لضرار عندما أضاع حقيبة المدرسة ، وكيف أن اللعب لا تشترى إلا لضرار بينما يكتفي هو بالفرجة عليه وهو يلعب وكيف أن اللباس الجديد من حظ ضرار فحسب ،
كان وديع يستطيع أن يدرك هذا التمييز بينه وبين ضرار في المعاملة ولم يكن يتصور أن الأيام ستقلب له ظهر المجن وستختفي تلك الضحكة ويحل مكانها دمعة حارقة حزينة0
ولكن بالرغم من قسوة الحياة فقد تعلم وديع أن لا يشتكي وما زالت كلمات أستاذه عبد الرحيم يتردد صداها في أذنيه عندما حدثه عن القضاء والقدر وأن عليه أن لا يعترض فيما قدره الله ، لذلك كان وديع دوماً كلما ازدادت عذاباته ومحنته يردد في نفسه ويقول : الحمد لله 0
ها قد اقترب وديع ، بدأ قلبه يزداد خفقاناً كلما اقترب من منزل أمه ، بدأ يشعر بعبقها ويشم رائحتها الزكية ، انفرجت أساريره التي لا تنفرج إلا عندما يأتي لزيارتها ، اقترب وديع ، بدأت خطواته تلهث تباعاً حتى صار يجري ويركض حيث أمه ،اتسعت ابتسامته وزادت خفقات قلبه حتى كان بإستطاعته أن يسمعها ، تلك الخفقات المميزة التي لا يدركها إلا من كان على وشك مقابلة محبوبه ، ولكنه ومع كل سعادته بمقابلة أمه لم ينسى ما علمه إياه استاذه عبد الرحيم ماذا يقول عندما يأتي لزيارتها،
وقف وديع سعيداً وعلى محياه ابتسامة الرضا عن نفسه لأنه كسر حاجز الخوف وجاء لأمه ، رمى خلف ظهره كل تهديدات أبيه ووعيد زوجة أبيه وابتسامة ضرار الخبيثة ، رمى كل هذا خلف ظهره وركض نحو أمه وقال :
السلام عليكم دار قوم مؤمنون ، أنتم السابقون ونحن اللاحقون وإنا إلى الله إن شاء الله لمهتدون 0
كيف حالك يا أمي ؟ ، لقد جلبت لك عقد الياسمين الذي تحبينه ،سأضعه على القبر عوض العقد القديم ، أرى أن العقد القديم قد يبس، الحق أني أنا المقصر يا أمي فقد مر عليه أكثر من شهر ، اعذريني يا حبيبتي أني لم استطع أن أتيك خلال هذه المدة فقد انشغلت في دراستي وأنت تعلمين أن الامتحانات على الأبواب ،
إن كنت تسألين عني فأنا بخير والحمد لله ، في الأمس ذهبت مع أبي وزوجته وضرار إلى مدينة الألعاب ، كنت مسروراً جداً وقد لعبت في كل الألعاب خلا لعبة العروسة فأنت تعرفين أنها تسبب لي الدوار ، وأبي مثلما أحدثك عنه دوماً وكما عهدتيه يحبني كثيراً ويغدق علي الحنان ولو أنه في هذه الأيام يشدد علي وعلى ضرار من أجل الدراسة ، أما زوجة أبي فهي عطوفة للغاية وتحبني مثل ضرار ، صحيح أنها ليست مثلك إذ أنه ليس أحد مثلك يا حبيبتي ولكنها تحاول أن ترضيني بشتى السبل وابنها ضرار كذلك يحبني كثيراً ويعتبرني مثل أخيه ونحن دوماً نلعب ونتشاقى وزوجة أبي تطلب منا بحنان أن نكف عن المشاغبة0
إن كنت تسألين عن ثيابي المتسخة والقديمة هذه فأنا كما تعلمين عبقري في توسيخ ثيابي ، ألا تذكرين كم كنت تعانين مني كنت كل يوم تبدلين لي ثيابي وكذلك الحال مع زوجة أبي تبدل ثيابي كل يوم
لا تقلقي بشأني يا أمي ، لا بد أنك انتبهت إلى هذا الجرح الذي في وجهي ، لا تخافي علي فهذا جرح بسيط فقد وقعت في المدرسة عندما كنت ألعب مع أصدقائي ،
هذه المرة لن أستطيع أن أتأخر عندك فقد طلبت مني زوجة أبي أن أعود مسرعاً لأني يجب أن أتم كتابة واجباتي المدرسية
أعدك أني إن شاء الله سأتيك بأسرع وقت ولن أتأخر عنك بعد اليوم ، أسأل الله أن يغفر لك ويرحمك يا حبيبتي
أمي أنا لا أبكي ، هي فقط دمعة نزلت من عيني ، لا أدري ربما شيء من الغبار دخل لعيني
( يدير وديع ظهره ليغادر قبر أمه ويمشي بخطوات متثاقلة ولكنه ما أن مشى عدة خطوات حتى رجع مهرولاً لقبر أمه احتضن القبر وأجهش بالبكاء طويلاً ثم رفع رأسه وقال: )
أمي ماعدت أحتمل ، ماعدت استطيع أن أكذب عليك ، سامحيني يا أمي أني كذبت عليك ولكني لا أريدك أن تحزني من أجلي ،وسامحيني لأني خالفت أوامر أبي فأنا لا أستطيع أن ابتعد عنك ولا آتيك ، أمي أنا لست سعيداً في حياتي ، حياتي جحيم لا يطاق ، لقد كذبت عليك أنا لم أذهب لمدينة الألعاب ، أبي اصطحب زوجته وضرار وتركوني في البيت بحجة أني ما أكملت دروسي ، مع أن ضرار ما فتح كتابه أصلاً ولم يكتب أي شيء من واجباته ، أساساًَ أبي لم يصطحبني منذ أن توفيت إلى أي مكان من الأماكن الجميلة التي كنا نذهب إليها في عهدك ، أبي ما عاد مثل ما كان يا أمي وزوجته تملؤ صدره عني ولا يرتاح لها بال حتى يوسعني ضرباً ، ثيابي هذه يا أمي لم تتبدل منذ أكثر من عشرة أيام ولم يشتري لي أبي أي ثوب منذ أكثر من سنة
أمي إني اشتاق إليك كثيراً واشتاق إلى تلك الأيام التي كانت تضمنا ، كنت أظن أنه ليس أحد سعيد في هذه الدنيا مثلي والأن أظن أنه لا أحد حزين في هذه الدنيا مثلي
تذكرين يا أمي عندما كنت أصاب بالحمى كيف كنت تسهرين علي ولا تنامين حتى تنخفض حرارتي ، منذ أيام أصابتني الحمى ورحت أتأوه ودخلت علي زوجة أبي وعنفتني وطلبت مني أن أكف عن التأوه لأني أقلق راحة منامهم
حتى أبي ما عاد يكلف نفسه ويشتري لي الدواء ولم يعد يهتم بي بالمرة ومع أن مدير المدرسة طلب مني ثلاث مرات أن أحضر ولي أمري ليخبره عن حالتي المزدرية ولكن أبي لم يذهب إليه وهو الأن يفكرجدياً أن يجعلني أترك المدرسة وأن يلحقني بالعمل ، تصوري يا أمي أنا الذي كنت متفوقاً في دراستي إلى أين وصل بي الحال ،
لم تعد الدنيا حلوة من بعدك يا أمي ، وإن ضمة تضميني فيها خير لي من كل هذه الدنيا يا حبيبتي ، يا رب إني أرجوك أن تجعلني أذهب لعند أمي ، أن ألاقيها ، أن اضمها ، أن اشم رائحتها ، يارب إني مشتاق جداً لأمي 0
والأن استسمحك يا أمي أن أمضي فقد تأخرت وقد توعدني أبي أنه سيضربني بالكرباج وإن هو نسي فلا بد أن زوجته ستتطوع وتذكره بذلك ، ادعي لي يا أمي أن ينجيني الله من هذه الإمراءة وابنها ومن شرهما ، السلام عليك يا أمي
( وفي صباح اليوم الثاني كان القبر الذي بجوار أم وديع يفتح ليضم بين جنباته وديع الذي لم يحتمل سياط الكرباج من أبيه ومع أن وجهه كان متخماً بالجراح إلا أن ابتسامة غامضة كانت تعلو محياه ، كيف لا وقد صار بإمكانه أن يلتقي بمحبوبته ويعانقها ويستريح في حضنها بعد كل هذا العناء الطويل)




وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَىٰ ۖ قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ ۖ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
الإهداء إلى كل يتيم يستيقظ ليلاً وينادي أمي ويضيع صدى صوته ولا تجيبه أمه
السلام عليكم
اخي القارئ لا تنسى الضغط في أسفل الصفحة على رسائل أقدم لمتابعة المزيد

في بيتنا أبو بريص


منذ عدة أيام وبعد عودتي إلى المنزل بعد يوم روتيني قضيته في عملي وعندما دخلت المنزل فوجئت بزوجتي تقف على قدم واحدة وأول ماولجت المنزل صاحت بي:
الحمد لله أنك أتيت
ابتسمت ابتسامة الرضا فلقد ظننت للوهلة الأولى أنها مشتاقة إلى رؤيتي وأن جرعة الحنين قد زادت عندها ولكن فرحتي لم تعمر إذ أنها سرعان ما أشارت إلى السقف وقالت لي انظر
نظرت وليتني لم أفعل ، إذ وقعت عيني على أبو بريص ( وهو السام الأبرص كما يطلق عليه في الفصحى)
لم يكن أبو بريص عادي بل كان بالحجم العائلي أو هكذا ظننته فأنا ليس عندي خبرة واسعة مع فصيلة الزواحف
ولأني جبان، نعم أنا جبان، قد أخجل ، قد استحي ، قد أتردد في قول هذا ولكني حقاً جبان ، وخاصة مع الحيوانات، فالحيوانات لاعقل لها ولاتمييز ولاتدري ماذا يكون ردة فعلها تجاهك فقد تهجم عليك ، قد تعضك، قد تقفز في وجهك، فهي دواب لاتفقه وليس هناك معايير تستطيع أن تتعامل معها بها،ولا تستطيع أن تؤاخذها وتقول لها عيب يادواب ، لايجوز يا حيوان، هذا خطأ يا بهيم فهي دواب عجماء لاتفقه ولن تعير ملاحظاتك وانزعاجك أي اهتمام ، ولأني لم أكحل عيناي في حياتي برؤية أبو بريص إلا مرات معدودة ومن بعيد لبعيد فلقد اعتبرت أني وقعت في مشكلة عويصة، ولكني مع ذلك لاأستطيع أن أبوح لزوجتي بشعوري هذا ، فأنا الرجل وعلي أن أقوم بواجبي، ثم أني أخجل أن أفتح فمي مثل البلهاء وأقول لزوجتي أني أخاف من أبو بريص أفندي فإن قلت لها ذلك خيبت ظنها بي وهي التي تنتظرني على أحر من الجمر ، ثم أني لو قلت لها ذلك فستنهار كرامتي أمامها وستتبعثر رجولتي وستتمرغ هيبتي المصطنعة التي بنيتها منذ سنوات زواجنا وستصبح في الحضيض لذلك بلعت خوفي وقلت لها بكل هدوء وثقة نفس وقد افتعلت ابتسامة عريضة:
سامحك الله يا أم العيال ،هههه، كل هذا الخوف من أجل أبو بريص هههه، إنه أبو بريص هههه00لايؤذي00أبو بريص!!
قلت هذا مع أني بداخلي ( بايظ أوي) كما يقول إخواننا في مصر، أما زوجتي فقد ابتدرتني قائلة:
يا رجل كيف لايؤذي، إنه يسبب البرص، ثم أنه قد قفز في وجهي وقد حاولت أن ألحق به وأضربه ولكنه هرب وصعد إلى السقف كما ترى وهو منذ ساعتين في مكانه لم يبرحه
قلت في نفسي: يا خيبتك يا أبا ذر، يعني زوجتك تلحق به ويهرب منها وأنت خائف منه
قلت لها : وما العمل الأن؟
فأجابتني: أصعد إليه وأقتله
ترددت قليلاً ولكني بالنهاية صعدت إليه مصطحباً معي سلاحي وهو عبارة عن حذائي وعندما وصلت إليه اكتشفت أنه كبير جداً فقلت في نفسي: حذاء ماذا الذي سأضربه به ، هذا بحاجة إلى مدفع أو رشاش
نظرت إلى أسفل فرأيت زوجتي ترقب الأمر بإهتمام وابني ابن السنتين والنصف قد أصابته عدوى الذعر وهو خائف جداً ، الوحيد الذي لم يكن متوتر بيننا هو ابنتي ابنة السنة والنصف فلقد كانت تضحك مسرورة وأزعم أنها لو تمكنت من أبو بريص وأمسكته لوضعته في فمها
قالت لي زوجتي: ما بك يا رجل لماذا تقف مكانك مكتوف الأيدي ولا تضربه
فأجبتها: لاينبغي أن أضربه هكذا ، لابد أن أخذ وضعيتي وأضربه ضربة نجلاء لايصحو منها أبدا
ثم أني اقتربت رويداً رويدا منه وراعني منظره المقرف خصوصاً وهو يحرك ذنبه ويلوي لي رأسه وكأنه يتحداني ويقول لي: تقدم إن كنت رجل
اقتربت منه وهمست في أذنه: يا أبو بريص، الله يخليلك بريص، دعنا نحل الأمور سلمياً ، لا نؤذيك ولا تؤذينا، اخرج من بيتي وسأتجاوز عنك لإقتحامك عقر داري من غير استئذان وسأعتبر هذا غلطة غير مقصودة
ولكنه استمر في هز ذنبه وتحريك رأسه وكأن الأمر لايعنيه

أستخدمت معه كل الطرق السلمية ولكنه أبى قلت له: يا حبيبي يا أبو بريص لاتستفزني ، لاتجعلني أغير أسلوبي في التعامل معك ، سأغمض عيني الأن وأفتحها وأراك غادرت من حيث أتيت ،ولكنه بقي متسمراً مكانه لايبرحه
أستخدمت معه أسلوب المشعوذين ورحت أنفث في وجهه قائلاً
بخ بخ بخ الوحى الوحى الوحى الساعة الساعة الساعة
ولكنه لم يتاثر بشعوذاتي فهو ليس من فصيلة اشليطان على حد قول أخونا أبو جندلة
أما زوجتي فقد نفذ صبرها وقالت لي :ماذا تفعل يا رجل لماذا لاتضربه
فقلت لها: سأضربه، ولكن الأمر يحتاج إلى تكتيك
فتأففت وقالت: تكتيك، وهل أنت في جبهة قتال، اضربه وخلصنا ، فقد يقفز على ابنك أو ابنتك أو يقفز علي
أرأيتم لا خير للنساء في أزواجهن ، فقد خافت على نفسها وعلى الأولاد أن يقفز عليهم ولم تخشى علي مع أني أقف في فوهة المدفع ، ولكن لا بأس سأظل أذكر لزوجتي هذا الموقف السلبي الذي وقفته ضدي في قضيتي مع أبو بريص
المهم أن هذا المخلوق العجيب قد تحرك صاعدا إلى أعلى نقطة في السقف فتنفست الصعداء وهممت بالنزول من على السلم ولكن زوجتي زجرتني قائلة:
إلى أين ستنزل
فقلت لها : يا إمراءة لقد تمركز في نقطة يصعب علي الوصول إليه ،سأنتظره ريثما ينزل إلى مستوى أستطيع ضربه
فقالت لي: وهل سنظل ننظر إليه حتى ينزل
فقلت لها: إن كانت هذه مشكلتك فلا تنظري إليه ، انظري إلى ولدك الخائف وإلى إبنتك التي انتقلت إليها عدوى الخوف، انظري إلى التلفاز، انظري إلى الطبخة التي ستحترق ، انظري إلى أي شيء وخلصينا ، يعني الواحد يدخل المنزل يشاهد في وجهه باقة ورد، مائدة شهية، صحن فواكه، أنا أدخل إلى المنزل تستقبلوني بأبو بريص!!
المهم أن زوجتي خرجت من الغرفة تهمهم بكلمات لم أفهمها ولكنها كانت غاضبة وكان هذا نذير سوء بالنسبة لي أن رجولتي سوف تتمرمط إن لم أقتل هذا الأبو بريص اللعين
فكرت في نفسي يالله كم أنت جبان يا أبا ذر كل هذا من أجل أبو بريص طيب ما الحال لو تفاجئت لاسمح الله بأفعى أو ضبع أو ماشابه ساعتها لابد أن تسقط صريعاً من الخوف ، وتذكرت صاحباً لي هوايته صيد الأفاعي ، حكى لي مرة كيف يصطاد الأفعى وكيف ينزع منها السم وكيف يسلخ جلدها ، صار يحدثني عن بطولاته ومغامراته بينما كنت أسرح في خيالي وأفكر بمثل هذه الهوايات، تذكرت حينها أخونا الناصر الذي هوايته جمع الأفران وقلت في نفسي يا سبحان الله وللناس فيما يعشقون مذاهب ، واحد هوايته صيد الأفاعي والثاني هوايته جمع الأفران وبكرة يطلعلنا واحد هوايته فرقعة أصابعه وأخر هوايته نكش أسنانه وللناس فيما يعشقون مذاهب،
ماذا حصل معك
إنه صوت زوجتي قطع علي سلسلة أفكاري نظرت إليها وإذ بها تنظر إلي مكشرة عن أنيابها وقد أخذ منها الغضب كل مأخذ وقالت:
ألم تقتل هذا السبع الضاري
شممت من رائحة كلامها سخرية واضحة
أما زلت تخطط للمعركة التي ستخوضها ضد أبو بريص
أممممم يا أبا ذر إذن وصلت الأمور إلى حد أن رجولتك في خطرو السبب هو هذا الأبو بريص اللعين، نظرت إليه فإذ هو في مكانه لم يبرحه ونظرت إلى زوجتي فرأيت في نظراتها عتاب شديد وكأني قد خيبت ظنها بي وهي التي كانت تنتظرني ، أعدت النظر إلى أبو بريص وقلت في نفسي :
علي أن أنتهي من عقدة الخوف فمن العيب على الرجل أن يخاف وخاصة منك أنت ، أنت إن طلعت وإن نزلت فأنت أبو بريص ، ثم أني أمسكت بحذائي وقفزت إلى السلم وصعدت عليه وهويت بحذائي على أبو بريص الذي سقط مغشياً عليه وألحقته بضربتين فتوفي غير مأسوف عليه
انطلقت زوجتي تكيل لي بكلمات المديح والثناء على رجولتي التي لايشق لها غبار وعلى بطولتي التي قيل في حقها الأشعار ، أما أنا فقد عادت لي هيبتي وقلت لها بعد أن جلست متربعاً:
يا زوجتي ههه، إنه أبو بريص ههههه، لايؤذي ههه، أبو بريص ههههه
بينما كنت أختلس النظر إليه من طرف عيني فقد خشيت أن يهب مثل أفلام الرعب عندما يقتل الشرير فإنه يعود وينهض من جديد ليهجم على بطل الفلم
أبعد الله عنكم البرص وأبو بريص وأم بريص وبريص وكل عائلة بريص
السلام عليكم
__________

نأسف على الازعاج 00مسرور يبتسم



في صباح يوم جديد وبعد أن استيقظ مسرور من نومه وهب من فراشه كان يعلم أن يومه هذا لن يكون يوماً عادياً ، فهو كان قد أخذ قرار بينه وبين نفسه أنه لن يغضب في هذا اليوم بل سيظل مبتسماً مهما حصل ومهما حدث ، ومع أن مسرور قد راودته هذه الفكرة منذ وقت بعيد ولكنه كان يماطل في تنفيذها ويؤجلها لمعرفته المسبقة أن من الصعب أن يظل يوماً كاملاً يبتسم ، فعدا أن عضلات فمه سوف تؤلمه من كثرة الإبتسام فإن مشاكل الحياة لن ترحمه ولن تعطيه الفرصة أن يظل مبتسماً يوماً بكامله وهو الذي بالعادة يبقى يومين أو ثلاثة لا يفشخ حنكه حتى بات معروفاً عند الجميع أن مسرور دائماً مقهور وهو عن الإبتسام محظور وإن أردتم الحق فهو معذور فالحياة تغور ومشاكلها لا تبور ، ولكنه مع ذلك قرر أن ينفذ ما عزم عليه وأن يظل مبتسماً طيلة هذا اليوم مهما حصل بحيث يكون هذا اليوم هو يوم الإبتسام العالمي بالنسبة لمسرور.
خرج مسرور من غرفته تعلوه ابتسامة الصباح ودخل المطبخ ليجد زوجته وأبنائه الثلاثة متحلقين حول مائدة الإفطار ينتظرون قدومه الميمون فسلم وجلس والإبتسامة المشرقة لا تفارقه ألتفت إلى زوجته وقد بش ( من البشاشة ) وقال لها:
كيف حالك يا زوجتي العزيزة هل نمت جيداً
ردت زوجة مسرور وتكشيرة الصباح تعلو محياها : نمت جيداً ؟! وكيف أنام جيداً وأنت شخيرك واصل إلى أخر الحارة ، يا رجل ألف مرة قلت لك أن تذهب إلى طبيب الأنف وتجري عملية وتزيل هذه الجيوب من أنفك ، لأني لا أستطيع أن أنام وسمفونياتك التي تتحفني فيها كل ليلة لا تتوقف يا مسروور
رد مسرور( وهو يبتسم) : لا بأس يا عزيزتي سأقوم بزيارة الطبيب بأسرع وقت ممكن إن شاء الله
وديع ( ابن مسرور ) : خير يا أبي أراك اليوم مبتسماً ، خير إن شاء الله
مسرور ( وهو يبتسم ) : ولماذا لا ابتسم يا بني ، من كان عنده مثل هذه العائلة فلا بد أن يبتسم
وديع ( بأسلوب انتهازي) : حسناً يا أبي طالما أنت مسرور ومبتسم هكذا على غير العادة فأريد أن أذكرك بالقسط الجامعي ، فقد مضى خمسة أيام على موعده يا أبتاه
مسرور ( يبتسم ) : بالطبع يا بني ، القسط الجامعي ، نعم ، خلال يومين يكون القسط جاهزاً إن شاء الله
وديع : ولكن يا أبي 000
مسرور ( يبتسم ) : خلاص يا وديع انتهينا يا بني ، يومين ويكون القسط عندك
هدى ( ابنة مسرور ) : وأنا يا أبي
مسرور ( يبتسم ) : وأنت ماذا يا هدى
هدى : أستاذة اللغة الأجنبية خرمت أذاني وهي تطالبني بأجرة دروس الشهر الماضي المتأخرة
مسرور ( يبتسم ) : لا بأس بعد يوميين إن شاء الله أعطيك أجر الدروس
هدى : ولكن يا أبي أنت منذ أسبوع تقول لي يوميين يوميين ولا تعطيني شيئاً
مسرور ( يكشر عن أنيابه ولكنه سرعان ما ينتبه لنفسه فيبتسم ) : يا هدى يا ابنتي كلها يوميين إن شاء الله وأعطيك المال ، انتهينا ياهدى ، انتهينا يا أولاد دعونا نفطر
سمير ( ابن مسرور الصغير ) : بابا متى ستشتري لي الدراجة التي وعدتني بها
مسرور ( يبتسم ) : أنا وعدتك بدراجة يا سمير ! متى كان هذا ؟
سمير :عندما كنا عائدين من بيت جدتي وكنت أنا وقتها أبكي أريد أن أبات عندها فقلت لي حينها أني إذا قعدت عاقل وأحسنت التصرف فسوف تشتري لي دراجة وأنا قعدت عاقل وأحسنت التصرف فمتى سوف تشتري لي الدراجة
مسرور ( يبتسم ) : قعدت عاقل ! ، ماشاء الله ، ليتك يا بني بت عند جدتك ولم تقعد عاقل ، إن شاء الله يا سمير، في الصيف يا ولدي في الصيف
يصيح سمير : في الصيف ، ولكنك وعدتني أنك ستشتريها لي الأن
مسرور ( يبتسم ) : إن شاء الله يا سمير في أقرب وقت أشتري لك نيلة دراجة ، دعونا نفطر يا أولاد
زوجة مسرور (مكشرة ) : ممكن أفهم أنت لماذا تبتسم ، ألا يوجعك فمك وأنت تبتسم هكذا منذ أن جلست إلى الأن يا مسروور
مسرور ( يبتسم ) : سبحان الله في طبعك يا زوجتي ، يعني إن كشرنا لا نخلص وإن ابتسمنا لا نخلص ، يعني مالذي أثار حفيظتك في ابتسامتي
زوجة مسرور( مكشرة ) :أثار حفيظتي أنك تبتسم ونسيت أو تناسيت أن الثلاجة معطلة منذ أسبوع وأنت لم تأتي بعامل صيانة ليصلحها ، وقاعد تبتسم ونسيت أن خطبة أخي بعد اسبوعين وأنت لم تعطيني لحد الأن أجرة الخياطة ، وقاعد تبتسم وأنت لم تصلح باب الغرفة المخلوع ولم تأت بنجار ليصلحه يا مسروور
مسرور ( يبتسم ابتسامة باردة ) : الحمد لله لقد شبعت ، سأذهب إلى العمل هل تريدين شيئاً يا زوجتي
زوجة مسرور ( مكشرة ) : نعم ، وأنت راجع للبيت هات في إيدك علبه سمن ورز ودجاج ولا تنسى أن تدفع فاتورة الكهرباء وأشتري دواء للغسيل يا مسروور
مسرور ( يبتسم ) : لماذا هو الغسيل مريض لا سمح الله
زوجة مسرور ( مكشرة لا تضحك للرغيف السخن ) : ولا تنسى أن أهلي سيأتون غدا لزيارتنا فهات في إيدك قليل من الفاكهة والمكسرات والحلويات واللازم منه يا مسروور
مسرور ( يبتسم ) : اللازم منه ، !!أمم ، حاضر يا زوجتي عن أذنكم
زوجة مسرور ( مكشرة ) : لقد نسيت أن أخبرك أن أنبوبة الغاز فارغة يا مسروور
مسرور ( يصرخ مبتسماً ) : حاضر حاضر حاضر
زوجة مسرور ( مكشرة ) : مسرور لا تنسى كيس القمامة ابقى خذه في إيدك وأنت نازل يا مسروووور
0000000000000
نزل مسرور إلى الشارع والإبتسامة لا تفارق محياه ، نظر إلى ساعته فرأى أنه قد تأخر عن عمله فقرر أن يركب سيارة أجرة ليصل بأسرع وقت ، وفي التاكسي كان هذا الحوار بينه وبين وسائق التاكسي
السائق ( مكشر ) : ستة عيال وأنا وأمهم أصبحنا ثمانية إذا افترضنا أن كل واحد منا سيأكل رغيف خبزواحد في اليوم فكم أحتاج أنا إلى نقود من أجل أن أطعمهم خبز فقط ، ها ، أجبني
مسرور ( يبتسم ) : كان الله في العون
السائق ( مكشر ) : يا أخي ستة عيال كل واحد منهم يفتح فمه مثل مغارة جعتا ، من أين ألحق عليهم وكيف سألبي طلباتهم التي لا تنتهي
مسرور ( يبتسم ) : يعني أنت أيضاً ولا مؤاخذة ، يعني ستة ، ما شاء الله همتك عالية
السائق ( مكشر ) : وكله كوم والزبائن كوم ثاني ، يظنوننا نحن معاشر السائقين سننهبهم نهباً ، كل واحد يناقشنا على الأجرة وكأننا نملأ خزان الوقود ماء وليس بنزين
مسرور ( يبتسم ) : كان الله في عونكم أنتم تتعبون حقاً
السائق (مكشر ) : وكله كوم وشرطة المرور كوم ثاني ، البارحة بالأمس تلقيت مخالفة لأني نسيت أن أضع حزام الأمان
مسرور ( يبتسم ) : وأنت الأخر لماذا تنساه
السائق ( مكشر ) : يا أخي نسيت ، نحن بشر نخطأ وننسى ، جل من لا يخطأ ولا ينسى يا أخي ، هل تعلم أن علي أن أعمل اسبوعاً بكامله من أجل أن أغطي خسارة هذه المخالفة
مسرور ( يبتسم ) : كان الله في عونك
السائق ( مكشر ) : من أين سأطعم عيالي أنا هذا الأسبوع ، ها ، اجبني
مسرور ( يبتسم ) : فعلاً ، من أين ?
السائق ( مكشر ) : يا أخي أنت لماذا تبتسم ، ليس من اللباقة أبداً أن تبتسم وأنا أحكي لك عن مصيبة أصابتني
مسرور ( يبتسم ) : لا تؤاخذني ، أرجوك أنزلي هنا
نزل مسرور من سيارة الأجرة بعد أن دفع للسائق المكشر أجرته الذي بدوره تمتم بكلمات لم يسمعها مسرور لأنه كان قد نزل من السيارة .
اتجه مسرور إلى عمله وسلم على زملائه بالعمل بعد أن بادرهم بإبتسامة مشرقة وهناك دار بينه وبين زملائه الحوار التالي
منير ( مكشر ) : هل سمعتم أن الرز قد ارتفع سعره
صالح ( مكشر ) : يعني هي وقفت على الرز ، ما كل شيء ارتفع والأسعار أصبحت لا تطاق
مسرور ( يبتسم ) : على رأيك ، ما كل شيء ارتفع سعره
منير ( مكشر ) : البارحة أخذت ابني للطبيب فأخبرني أن علي أن أجري له عملية الزائدة بأسرع وقت ، لا أدري من أين سأتي بالمبلغ المطلوب
صالح ( مكشر ) : وماذا أقول أنا وزفاف ابنتي بعد أقل من شهرين ونحن ولم نشتري أي شيء بعد لتجهيزها
مسرور ( يبتسم ) : كان الله في العون
منير ( مكشر ) : يا أخي أنت لماذا تبتسم هكذا ، مالذي في حديثنا يجلب الإبتسام والفرح
صالح ( مكشر ) : فعلاً يا أخي مالذي يفرحك أنت ، حقاً صدق من قال الضحك بدون سبب قلة أدب ، ماهذا الحس البارد عندك يا أخي ، ألا تخجل من نفسك وأنت تبتسم لنا مثل البلهاء
منير ( مكشر ) : حقاً يا مسرور ما توقعتك بمثل هذه البلادة وما توقعت أن يصدر منك هذا الفعل المشين ، فعلاً اللي استحوا ماتوا
أدار مسرور ظهره لزملائه وهو يبتسم ، ومع أن نفسه راودته أن يكف عن الإبتسام بعد أن رأى ردة الفعل القاسية من زملائه نتيجة ابتسامته في وجوههم ولكنه بقي مصراً على أن يظل مبتسماً هذا اليوم مهما كانت النتيجة ، وبناء عليه فقد أدار ظهره لزملائه وجلس يبتسم للحائط ، وبعد أن أنهى مسرور عمله وفي طريقه إلى منزله صادف صديقه عبد المعطي ودار بينهما هذا الحوار
عبد المعطي ( مكشر ) : أخيراً صادفتك يا مسرور ، يا رجل أسبوع كامل وأنا أتصل بك في البيت وأنت تتهرب مني
مسرور ( يبتسم بتلعثم ) : عبد المعطي ، كيف حالك يا صديقي
عبد المعطي ( مكشر ) : لست بخير يا مسرور والسبب أنت
مسرور ( يبتسم ) : أنا ؟ لماذا خير إن شاء الله
عبد المعطي ( مكشر ) :يا رجل طلبت مني أن أقرضك مائة دينار وقرضة الله حسنة وقلت لي أنك ستردها لي بعد يوميين واليوميين أصبحا أسبوعيين والأسبوعيين أصبحا شهرين وأنت تتهرب مني ولا ترد لي مالي
مسرور ( يبتسم بخجل ) : والله يا عبد المعطي 00بصراحة0000أنا00الظروف
عبد المعطي ( مكشر ) : الظروف الظروف الظروف ، يا رجل ثقبت أذاني بالظروف ، إذا كنت لا تستطيع أن ترد للناس أموالهم فلماذا تستدين إذاً يا مواطن
مسرور ( تكاد الإبتسامة تفارقه ) : حسناً يا عبد المعطي يوميين فقط وأرد لك الدين الذي بذمتي
عبد المعطي ( مكشر ) : لقد شبعت من هذا الكلام ، منذ أكثر من شهر وأنت تقول لي يوميين ، يا أخي اتق الله يا أخي ، ثم تعال هنا وقللي لماذا أنت تبتسم هكذا ،أ تسخر مني يا مسرور ، تبتسم في وجهي يا مسرور
مسرور ( يبتسم بحذر ) : لا والله ليس القصد ولكن القصة000
عبد المعطي ( مكشر ) : القصة أنك لا تستحي يا مسرور ، قاعد تسخر مني وتبتسم في وجهي ، قل لي أنك لا تريد أن تدفع المال وخلصني
مسرور ( يبتسم ) : يا عبد المعطي لا داعي لهذا الكلام
عبد المعطي ( مكشر ) : فوضت أمري فيك لله يا مسرور ، فوضت أمري فيك لله يا مسرور
يمضي عبد المعطي وهو غضبان وهنا يتدخل جار مسرور الذي سمع الشجار فيقول :
الجار : خير يا جار لماذا هذا الرجل يصرخ هكذا
مسرور ( يبتسم ) : لقد كنت أتشاجر معه يا جار
الجار ( مستغرباً ) : سبحان الله تتشاجر مع الناس وأنت تبتسم ؟! ، إذا كنت تبتسم وأنت غضبان وتتشاجر مع الناس إذاً كيف يكون حالك إذا كنت مسرور يا مسرور
لم يرد مسرور على ملاحظة جاره ومضى إلى بيته وقرر أن يدخل غرفته ولا يغادرها حتى لا يضايق أحد بابتساماته ولكنه بالمساء شعر بالضجر فدخل غرفة المعيشة وجلس أمام التلفاز وهو مبتسم وكانت نشرة الأخبار
المذيع ( مكشر ) : وفي النشرة أنباء أخرى متفرقة ، وفي خبرنا الرئيسي أفاد مراسلنا في غزة أن حصيلة العدوان الإسرائيلي صبيحة هذا اليوم قد ارتفعت إلى ثلاثين قتيلاً وعشرات الجرحى ومعنا من هناك مراسلنا حميد القمري ، حميد ماذا عن أخر التطورات
مسرور : يشعر بألم شديد في فمه
المذيع ( مكشر ) : وفي بغداد أدى الإنفجار الذي وقع إلى سقوط أكثر من مائة وعشرين ما بين قتيل وجريح
مسرور : يشعر بألم شديد لا يطاق في فمه
المذيع ( مكشر ) : وفي كابل أسفرت الغارة الجوية الأمريكية عن سقوط ما لا يقل عن سبعة عشر قتيلاً بينهم نساء وأطفال
مسرور ( يصيح ) : أرجوكم ماعدت أستطيع أن أحتمل ، ماعدت أستطيع أن أبتسم ، لن أبتسم بعد هذا اليوم ، لن أبتسم ، لن أبتسم ، لن أبتسم
زوجة مسرور : مسرور ، قم يا مسرور خير إن شاء الله هل رأيت كابوساً
مسرور : نعم ، إنه كابوس ، لقد رأيت ، لقد رأيت أني ابتسم
زوجة مسرور : تبتسم ؟! يا لطيف الطف يا رب ، هذه رؤيا لا تطمن يا مسرور ، يجب أن تعرض رؤيتك على أحد المعبرين
مسرور: لا بأس غداً سأعرض رؤيتي على صديقي مفارق العلامة فهو مؤول جيد ، نامي يا زوجتي فقد أفزعتني هذه الرؤيا
في اليوم الثاني استيقظ مسرور وهو مكشر وجلس مع عائلته على مائدة الإفطار وجميعهم مكشرون وقبل أن يخرج من المنزل نظر إلى المرآة فرأى وجهه المكشر فتنفس الصعداء وقال :
الحمد لله ، لقد كان كابوس
السلام عليكم


أسف صديقي ...أسف حبيبي.... نسيت اسمك ولكن طيفك ما زال في بالي




بسم الله الرحمن الرحيم
لا أصابكم الله بداء النسيان فهو داء سمج وممل يشعر المرء معه أنه قد أصيب بالخرف حتى لو كان في ريعان الشباب وإن أردتم أن تتعرفوا عليه أكثر فاسألوا به خبيرا ، فأخاكم بالله قد أصيب به وهو خير من يحدثكم عنه ، أحياناً كثيرة أفعل الشيء وأنسى بعد دقائق أني فعلته ،وأحياناً أضع الشيء وأنسى بعد لحظات أين وضعته، وأكل الطعام وأنسى بعد برهة ماذا أكلت ،وأسوأ ما في الأمر أن زوجتي المصون توصيني أن أجلب لها عند عودتي إلى المنزل بعض الحاجيات وهي مع أنها تؤكد علي عبر الهاتف كذا مرة على تلك الطلبات(لخبرتها فيما أتمتع به من فن النسيان) فإني عندما أدخل المنزل وقد رسمت ابتسامة ودية منتظراً أن تبادلني الابتسامة بأحسن منها وقبل أن ألقي السلام تلقي هي سيل الكلام (الذي لن أبوح لكم به) فلقد نسيت الأغراض أو بأحسن الأحوال نسيت بعض الأغراض مما يضطرني أسفاً أن أرجع القهقرى إلى السوق لأبتاع ما قد نسيت ، إلا أن كل ذلك يهون إذا قورن مع الخجل الذي يجتاحني إذا ما ساقني القدر أن أتعرف إلى أحد الأشخاص فإن هذا يعني أن علي أن أحفظ اسمه وهذا بالنسبة لي من اللوغاريتمات التي لا حل لها ، فإذا لقيت أبا أحمد فإني أهلل بوجهه مرحباً قائلاً:
أهلاً أبا محمد
ولكن الرجل يصحح لي معلوماتي قائلاً : عفواً لقد أخبرتك بالأمس أني أبا أحمد
فأعتذر له أشد الإعتذارحتى إذا ما رأيته ثانية صافحته بحرارة مؤهلاً مسهلا: أهلاً أبا محمد
فيرد وقد أخفى من وجهه علامات الامتعاض: لقد أخبرتك يا أخي أني أبا أحمد
فأعتذر له متعللاً بمشاغل الحياة التي تنسي المرء اسمه أحياناً حتى إذا ما لقيته الثالثة قلت له : أهلاً أبا محمد
فيمضي في طريقه غير أبه ولسان حاله يقول( إحنا ناقصين مجانين)
من أجل هذا فإني بت أخاف على ذاكرتي أن تضمحل شيئاً فشيئا ويصيبني الخرف وأنا في ريعان الشباب لا سمح الله ، ولكي أتأكد بأني ما زلت أحافظ على بقايا من ذاكرتي فإني أجلس في بعض الأحيان جلسة تستطيع أن تسميها علاجية استرجع فيها بعضاً من شريط حياتي لأتأكد من أني ما زلت محافظاً على هذه الذاكرة مما يساعدني على رفع معنوياتي
تارة أرجع للوراء خطوتين لأتذكر أمراًً مر معي من يومين وتارة أرجع عدة خطوات وأحياناً أتجرأ فأرجع للوراء ألاف الأميال لأصل لأيام طفولتي ، هل قلت طفولتي؟ يااااااه ، هذا يعني أن علي أن أرجع لربع قرن ويزيد فهل سأفلح أن أذهب إلى هناك ، ما رأيكم؟!ألا يستحق الأمر المغامرة، ولكن ما رأيكم أن تذهبوا معي فقد يكون في الأمر ما يثير الاهتمام ومن يدري لعلي أتيكم بقصة لا تنسوها فقد تكونوا تتمتعون بذاكرة خير مني ، فإلى هناك إلى أيام طفولتي...
عندما أعود إلى طفولتي فهذا يعني أني سأرجع إلى أحلى أيامي وأمرها ، إلى ضحكاتها ونحيبها ، إلى عذبها وعذابها حيث ملاعب الصبا ، والضحكات الرنانة المصحوبة مع زقزقات العصافير، والدموع الحارة التي تنسكب من عيني طفل كتب الله عليه أن يبكي لا كبكاء الأطفال إنما هي دموع تحرق وجنتيه حرقاً
نعم لقد بدأت أتذكر ،بل أني أتذكر جيداً يبدو أن ذاكرتي قد عادت بي بكل تفاصيل طفولتي ، يبدو أني ما كنت أنسى إلا إهمالا أو هروباً من الواقع أو عدم مبالاة فها هي ذاكرتي تخدمني وتحت طوعي ، ولكن هل سيكون من المناسب أن أغوص أكثر ، هل سأستخرج من ذاكرتي لؤلؤا ومرجانا أما أنها ستكون كأي ذاكرة طفل قضاها بين اللعب واللهو ، تعالوا لنجرب فلعل في طفولتي ما يستحق الغوص من أجله أكثر.........
في صباح ذلك اليوم الصيفي دخل والدي البيت وهو فرح مستبشر( وقلما ما كان يفعل ذلك) ليزف لوالدتي الخبر السار الذي طالما انتظراه:
لقد جاءت الموافقة من السفارة السعودية ، سنذهب يا أم العيال للعمل هناك كمدرسين
كان هذا الخبر ذو دلالة عظيمة عند أهلي ، فهذا يعني أن أوضاعنا المادية ستتحسن وأننا سنقبر الفقر وبناء على ذلك فقد تلقى أهلي هذا الخبر بفرح وسرور وأخذا يتجهزا للسفر واستقر الرأي على أن أذهب لبلاد الحجاز مع والديَ بينما يبقى أخويَ في بيت جدتي ليكملا دراستهما الجامعية ، بالنسبة لي فقد أخذت أقلد أهلي في مشاعري فأخذ مني السرور كل مأخذ فلقد ظننت وأنا في تلك السن المبكرة من عمري أني سأذهب في رحلة مع أهلي نقضي فيها يومين جميلين ونرجع لأحكي لأخوي ما رأيت في تلك السفرة بينما يقضمان هما أظافرهما غيظاً وحسداً لأنهما لم يذهبوا معنا ، واستمر هذا السرور الساذج يصاحبني حتى قبيل سفرنا بأيام قليلة عندما دخلت إلى غرفة المعيشة لأتفاجأ بأمي وهي تنتحب باكية وخالتي عندها تحاول أن تهدئ من روعها ....
هوني عليك يا أختاه كلها سنة وتأتين أجازة ، ألا يكفي أنك ستذهبين إلى بلاد الحجاز سيكون في مقدوركم أن تعملوا عمرة متى ما شئتم
لم أفقه شيئاً مما تفضلت به خالتي ، فأنا لم أكن لأقدر ما تحمله كلمة سنة من قيمة زمنية لا يستهان بها ، فهي تعني اثنا عشر شهرا وثمان وأربعون أسبوعا وثلاثمائة وخمس وستون يوماً و8760ساعة و525600دقيقة وهي أرقام لا يدرك معناها إلا من جرب الغربة والبعد عن الأهل والأوطان وأنا لم أكن لأدرك هذا الأمر في تلك السن المبكرة من حياتي ولكني مع ذلك وعندما رأيت دموع أمي سخية فإني شعرت ولو بالفطرة أن في الأمر خطب ما وأن الأمور لن تكون كرحلة قصيرة استمتع بها وأرجع لأقص على أخوي ما شاهدت خلالها، إلا أن الأمور اتضحت لي بشكل كامل لحظة السفر عندما اجتمع الأقارب لوداعنا وتفجرت المقل بالدموع ولعلعت الحناجر بالبكاء المصحوب بالنحيب ويا لهول ما رأيت عندما التفت فرأيت أبي وقد استسلم لموجة خانقة من البكاء، أبي الذي كانت أمي إذا ما أسقط في يدها ووصلت معي إلى طريق مسدود لوحت لي بذكر اسم والدي وهذا كان كفيل بأن أبول بسروالي أراه الأن يبكي وهو يوصي جدتي خيراً بأخوي ، عندما رأيت هذا تيقنت أن الأمر جلل وأن وراء الأجمة ما وراءها.............
لم أدرك معنى الغربة إلا في ذلك اليوم الشاتي حين دخلت مدرستي الجديدة في تلك البلدة الصغيرة التي تقع في جبال عسير حيث تعانق الأرض السماء ، وحينما ألقيت جسدي الغض في مقعد الدراسة وأمسكت بالقلم متأهباً لأول يوم دراسي توقعت أن معلمة الفصل ستدخل بطلتها البهية لتعلمنا أناشيد عن الزهور والمطر والربيع كما تعودت في مدرستي ولكن توقعاتي خابت حينما دخل معلم كبير بالسن وعلى وجهه قسمات الصرامة ، أول ما ولج الفصل وقعت عيناه علي يدي وأنا ممسك بالقلم فبادرني قائلاً:
صك القلم
اعتقدت أنه يأمرني أن أمسك القلم ولأنني ممسك به فعلاً فلقد ظننت أنه لم ينتبه له فاكتفيت بهز رأسي مصحوباً بابتسامة خفيفة ولكن المعلم نظر إلي مندهشاً وقال:
يا ولد أقلك صك القلم
عبثاً حاولت أن أفهمه بأني ممسك بالقلم كما طلب( لاعتقادي بأنه يريد هذا) فأخذت ألوح بالقلم في وجهه ، ولكن الأستاذ اعتبر تلويحي بالقلم في وجهه تحد له ففغر فاه باندهاش وهو يقول:
يا ولد مهبول انت أقلك صك القلم
وهنا تطوع أحد التلاميذ من أرض الحرمين مشكوراً بأن قام من مقعده وجاء لينزع القلم من يدي ويضعه جانباً وعندها عرفت أن معنى كلمة صك القلم أي ضع القلم.
صحيح أن هذه القصة تثير ضحكي بعد هذه السنين الطويلة إلا أنها لم تكن كذلك في وقتها ، لقد تعلمت من هذه القصة وأنا في تلك السن المبكرة أن هناك لهجة غير اللهجة التي تعلمتها في بلدي وهذا شعور قاس بالنسبة لطفل لم يتعلم النطق إلا منذ سنوات معدودة وإذ به يرى أن ما تعلمه عليه أن يتركه هناك في بلده ، حيث ملاعب الصبا التي تركها خلفه وحيث أخواه اللذان لن يقرضا أظافرهما حسرة لتفويتهما تلك الرحلة بل هو الذي سيقضم أظافره شوقاً إلى بلاده ، نعم لقد علمتني هذه الحادثة معنى الغربة وأكاد أجزم أني تعلمت معنى الغربة قبل أن أتعلم أبجديات الحياة
ربما من المفيد أن أقف هنا وقفة قصيرة لأبين لكم أنه بالرغم من الشعور القاسي الذي كنت أشعر به من البعد عن الأهل والأحباب وأنا في تلك السن المبكرة ولكني في الواقع قد أحببت تلك البلاد( أي بلاد الحرمين) حباً جماً واتضح هذا الحب عندي عندما رجعت مع والديَ إلى بلادنا ، فلقد استفدت من تلك السنوات التي قضيتها فيها أشياء كثيرة أثرت على عقليتي ونظرتي للأمور فيما بعد عندما أصبحت شاباً وتخطيت مرحلة المراهقة المرهقة، ولكني الأن أنقل لكم شعور طفل رأى نفسه فجأة في بيئة جديدة عليه كلياً وكان عليه أن يتأقلم معها ولكن هل نجحت أن أتأقلم مع هذا التغير في حياتي ، هذا ما ستجيب عنه السطور القادمة بإذن الله
يظن البعض أن مقولة (حب الأوطان من الإيمان ) حديث نبوي وهذا خطأ شائع ولكن مهما يكن فهي مقولة صادقة إلى حد بعيد، فحب الوطن غريزة وضعها الباري عز وجل في الإنسان لا يستطيع التحكم بها أو التغلب عليها وهذه الغريزة تظهر بشكل جلي عندما يفارق أحدنا أهله وبلده ويضرب في الأرض يبتغي من رزق الله ورحم الله القائل
بلادي وإن جارت علي عزيزة وأهلي وإن ضنوا علي كرام
كنت كثيراً ما أجلس متخفياً في سريري وقد غطيت رأسي باللحاف لأبكي وأبكي وأبكي حتى تستغيث عيناي مني ويتبلل اللحاف بالدموع، وكنت حريصاً على أن ألا أظهر مشاعر الحزن والشوق إلى بلدي لوالديَ
ربما لكي لا أثير غضب والدي مني لظني وقتها أن بكائي هذا من الترف المحرم الذي يجب أن أترفع عنه
وربما لأني لا أريد أن أزيد من حزن أبي وأمي اللذان تركا خلفهما أخويَ كما ذكرت
ولكني كنت أجد متعة غريبة في البكاء وراحة تعوضني ولو قليلاً عن ربوع بلادي
كان أدنى شيء كفيل بأن يحرك بي موجات الشوق الهادرة وأدنى ذكرى كفيلة أن تفجر بركان الحنين لدي
كنت أحن شوقاً إلى الحارة التي كنت أسكن بها وأتساءل هل ما زال أصدقائي يلعبون في المكان الذي كنا نلعب به
أحن شوقاً إلى البيت الذي فتحت عيناي على الدنيا فرأيتني أحيا به
أحن شوقاً إلى أخي الكبير بل أني كنت أحن حتى لأوامره الرعناء التي كان يحاول من خلالها ممارسة دور التسلط الأبوي
أحن لأصدقائي الذين تركتهم خلفي ولأقرنائي الذين كنت ألعب معهم بل أني كنت أحن حتى لأولئك الذين لم أكن استلطفهم بالمرة، نعم لقد كنت أحن حتى لابن خالتي الذي كنت أرى سماجة الدنيا كلها قد اجتمعت في شخصه الكريم
أعتقد أن من كانت تلك حالته فلا تسأله عن اندماجه في تلك البيئة الجديدة عليه، ولأزيد الفكرة وضوحاً دعني أحكي لك هذه القصة التي كلما ذكرتها ضحكت ملء فمي:
في يوم من الأيام قالت لي أمي: اذهب لبيت جيراننا وقل لجارتنا( وهي من مصر) أن تعيرنا الطنجرة
وقبل أن أهمَ بالذهاب استدركت أمي قائلة: إياك أن تقول لها طنجرة ولكن قل لها ( الحلة)
ولما تساءلت عن السبب أخبرتني أمي أنها لن تفهم علي (أي جارتنا) إذا قلت لها طنجرة فهم في مصر يقولون عنها حلة
وفي الطريق لبيت جيراننا وفجأة وبدون مقدمات ثارت علي نعرتي الوطنية وتفكرت في نفسي : لماذا نحن نفهم لهجتهم وهم لا يفهمون كلامنا ، والله لن أقول لها إلا طنجرة وليكن ما يكون، طرقت الباب وفتحت لي الجارة(ذكرها الله بالخير) وكان في يدها ابنها الرضيع ترضعه فقلت لها :يا خاله أمي تسلم عليك وتريد منك أن تعيريها الطنجرة
فقالت لي: طنكرة ايه يا ابني كفى الله الشر
فأعدت عليها نفس الكلام دون أن أوضح لها أن طنجرة تعني حلة
حاولت هي بشتى الطرق أن تفهم مني ما أريد قائلة: يا ابني فسر انت عاوز ايه بالضبط
ولكني بقيت مصراً على موقفي المبدئي ولم أحد عنه قيد أنمله، فلما رأت عبث محاولاتها معي قامت إلى ملاءتها ووضعتها على رأسها لتمضي معي إلى بيتنا وتسأل أمي عن الشيء الذي تريد استعارته وقبل أن تمضي معي وضعت ابنها الرضيع في مهده قبل أن تكمل ارضاعه والذي بدوره عبر عن سخطه الشديد فأخذ يضرب الفراش برجليه ويولول مثل الثكالى ، أما أنا فلقد بقيت على موقفي ولم ارحم صراخ الطفل الذي وصل لأخر الشارع ضارباً بعرض الحائط كل العلاقات الودية مع الشقيقة مصر وكدت أن أتسبب بأزمة حادة في العلاقات، وعندما وصلت جارتنا إلى أمي اعتذرت لها كثيراً وقالت لها لقد أخبرته أن يقول لكِ (الحلة) ولكن جارتنا نظرت إلي بغيظ قائلة: ما كنت تقول انك عايز الحله من الصبح، ربنا يهديك يا ابني، أما أنا فلقد اكتفيت بأن (تنحت برأسي) ولم أتراجع عن موقفي بتاتاً،طنجرة يعني طنجرة!!!

بقيت على هذه الحالة تمور بي الأشواق موراً وانكمشت على نفسي كريشة في مهب الريح تحاول أن تحمي نفسها من اعصار شديد حتى جاء ذلك اليوم الذي دخل به حياتي ، جاء كالنسمة العليلة في يوم قيظ حار، جاء كالماء البارد على الظمأ ،جاء كالبلسم الشافي على الوجع، المهم أنه قد جاء وأقتحم حياتي بدون مقدمات ،اصطحبه أبوه معه لبيتنا عندما كان في زيارة لوالدي،وسرعان ما ائتلفت أرواحنا وتحاببنا وأصبحنا صديقين منذ الوهلة الأولى ، لقد أحببته كثيراً ربما لأني رأيت فيه تعويضاً لي عمن خلفته ورائي من أصدقاء في بلادي ، فلقد كان من نفس البلد الذي أنتمي إليه وهو أيضاً تعلق بي ربما لأنه شعر أني أشاطره الوحدة التي يعيشها فهو بالرغم أن له ثلاثة إخوة ولكنهم ليسوا أشقائه فهو ابن (الجديدة) كما يقولون ولعله كان يعاني من نفس الشعور الذي كنت أشعر به من الوحدة والغربة من أجل هذا فإننا أعلنا منذ اللحظة الأولى عن ميلاد صداقتنا
أصدقكم القول أني كنت أحبه ، بل لقد أحببته أكثر من أي شخص في تلك الفترة من حياتي، لقد كان بمثابة طوق النجاة الذي تعلقت به فرجعت لي حيويتي والضحكات الرنانة التي افتقدتها منذ أن غادرت ملاعب الصبا في بلادي، كنا نركض سوياً وكان ماهراً في الجري وكنت عبثاً أحاول أن أجاريه في الجري ، كان يقفز من مرتفع عال وكنت أقفز وراءه وكدت مرة أن أكسر رجلي وأنا أقوم بذلك،كان وهو يمشي إذا أراد أن ينعطف يميناً يغمض عينه اليمنى ويفتحها عدة مرات ويصدر صوتاً من فمه وعندما يريد أن ينعطف شمالاً يفعل نفس الشيء في عينه اليسرى وعندما سألته عن السبب قال أنه يقلد (غماز السيارة) فكنت أضحك لذلك كثيراً، ولأننا أصدقاء فكان لا بد أن يكون لنا أسرارنا المشتركة فكنت أحكي له أسراري وكان يفعل مثل ذلك ، المهم أنه ملئ عليَ حياتي وأحال أيامي الحالكة إلى أيام سعيدة كدت معها أن أنسى غربتي وأن أنسى ما تركته خلفي من ملاعب وأصدقاء ، ولكن سبحان الله فالأيام الجميلة قلما ما تدوم ، فلم تدم تلك الصداقة الطفولية البريئة سوى عدة شهور ، فكما أن صداقتنا ولدت من دون مقدمات فإنها قد ماتت بدون مقدمات
قالوا لي : لقد مات صديقك

كيف مات!!!!
مات بحادث سيارة
ألم أقل لكم أنه كان كالنسمة العليلة في يوم شديد الحرارة، فما أقل النسمات العليلة في أيام القيظ
سبحان الله ، شاء الله أن يموت صديقي وتبقى أمه وتموت زوجة أبيه ويبقى أبناءها الثلاثة، معادلة صعبة ولكن كلٌ مسير لما قدَر له
أما أنا فلقد أنكفأت على نفسي ورحت ألعق جراحي فقد علمتني الحياة معنى الفراق وألم الوداع بعد أن علمتني معنى الغربة وأذقتني طعم مرارة فراق الأحبة وأنا لم أتجاوز السنين السبع من حياتي
رحت أتردد على نفس الأماكن التي كانت تجمعنا ولكنها لم تعد ترقني ، حاولت مرة أن أقفز من نفس المكان الذي كنا نقفز منه ولكن شجاعتي خانتني فما استطعت ذلك ، حاولت مرة أن أقلد غماز السيارة فأغمضت عيني وفتحتها عدة مرات وأصرت صوتاً يشبه الغماز ولكن أحدا ممن كان حولي لم يضحك فما عدت لأفعل ذلك
الخلاصة أن شعوري بالغربة عاد يتملكني ومن يدري لعله ما زال يتملكني حتى هذه اللحظة
أخذتني الحياة ورحت أكبر وتكبر معي الحياة والمسؤوليات وارتبطت بصداقات جديدة وشيئاً فشيئاً بدأت أنسى ملاعب الصبا والضحكات الرنانة وبالتالي بدأت أنساه
الأن وبعد كل هذه السنين فإن ذاكرتي قد نجحت أن تعيدني إلى تلك الأيام لأتذكر صديقي الذي لم تدم صداقتنا سوى أشهر معدودة ولكنها كانت كفيلة بأن تملأ كياني بأحلى الذكريات
لا يا صديقي لن أنساك فرحمة الله عليك ، رحمك الله يا.......
يا.......
يا هيثم.... لا لم يكن اسمه هيثم بل أحمد ....لا لا ليس أحمد بل سمير .....
أتدري لقد نسيت اسمك يا صديقي فإن ذاكرتي التي أعادتني إلى تلك الأيام نسيت أن ترسخ في ذهني شيئاً مهماً ألاوهو اسمك ،
قد أكون أحمق إذ كيف أنسى اسمك
قد أكون مستهتراً إذ كيف نسيت اسمك
هل أنا الذي نسيت أم أن الزمن أنساني؟
أسف صديقي ...أسف حبيبي.... نسيت اسمك ولكن طيفك ما زال في بالي
السلام عليكم

قطعة كنافة



بسم الله الرحمن الرحيم
الإهداء

لكل طفل وطفلة سورية
لكل رجل وإمراءة سورية

لكل شيخ وعجوز سورية
أهدي هذه القصة التي تحكي معاناة الشعب السوري وتختصرها في كلمات

مع خطواته المتثاقلة كان الأستاذ وديع يصعد الدرج بإعياء وتعب شديدين بعد أن عاد من المدرسة وقبل أن يدس يده إلى جيب معطفه ويخرج المفاتيح فتحت جارته أم عمر باب بيتها المقابل لمنزله وسلمت عليه وأردفت قائلة :
لقد دخلت اليوم مرتين على بهاء وهو الحمد لله في تحسن ونفسيته أفضل بكثير
- أشكرك كثيرا يا أم عمر فوالله إنك وأبو عمر لم تقصرا معنا أنا وبهاء ، فمنذ استشهاد زوجتي وداد وأنتم لم تتركونا أبدا
- ما هذا الكلام يا أستاذ وديع ، أنتم لستم مجرد جيران لنا بل نحن أهل ، فلا أريد أن اسمع منك هذا الكلام ثانية ، كما أنني أتمنى أن تنبه بهاء أن يعاملني كأمه فكلما أريد أن أدخله إلى الحمام يشعر بحرج شديد مني
- تعلمين يا أم عمر أن بهاء يمر بحالة نفسية ضائقة ، فمن جهة فقد أمه ومن جهد أخرى فقد قدميه في التفجير
- نعم أعلم هذا ، قاتلهم الله فقد سقط الصاروخ في البناية وكان أسوأ من تأثر به هما وداد رحمها الله وبهاء الذي بترت قدماه
انهى الأستاذ وديع محادثته مع جارته أم عمر ودخل بيته ، أخرج محفظته وعد النقود المتبقية معه ، إنها ثلاثة ألاف ليرة وبضعة نقود معدنية ينبغي أن يقضي الشهر بها ، خلع معطفه الطويل ووضعه على الكرسي وعبثا حاول أن ينظفه من الوحل الكثير الذي أصابه عندما تعثر صباحا وهو في طريقه إلى المدرسة ، تمتم قائلا : رحمك الله يا وداد ، ما كنت ترضين أن أخرج من المنزل إلا وأنا في كامل أناقتي ، لو ترين الأن حالتي وكيف هو مظهري البائس
اتجه نحو سرير ابنه بهاء الذي كان يغط في نوم عميق وألقى نظرة ملئها الحنان عليه وألقى بنظرة خاطفة تريد أن تتنكر للواقع نحو قدماه أو قل للمكان الذي ينبغي أن تكون قدماه فيه موجودتان أو لعل نظرته الخاطفة تلك كانت كمن ينتظر معجزة أن ينظر فجأة فيراهما في مكانهما موجودتان من جديد
توجه نحو النافذة ، إنه يوم شائت والمطر يهطر بغزارة كما كان منذ الصباح ، سرح خياله وعاد به لثلاثة أشهر عندما غادر المنزل لمشوار بسيط ، كان وقتها يقعد مع زوجته وداد وابنه بهاء وفجأة قرر النزول للشارع لأمر عارض ليس مهم وبعد نزوله بعدة دقائق سقط صاروخ على البناية التي يقطن بها وقتلت زوجته وأصيب ابنه إصابة بليغة بترت على اثرها قدماه
ألتفت نحو سرير بهاء فإذ هو مستيقظ يبتسم له ، بادره الإبتسامة بأختها وقال له :
- ها قد استيقظت يا بهاء ، إنه يوم ممطر ، منذ زمن لم يهطل مثل هذا المطر
أومأ بهاء برأسه وقال : كم أتوق لرؤية المطر يا أبي
- لا بأس يا بني سأحملك لترى المشهد من النافذة
- ياه إن المشهد جميل جدا ، أترى يا أبي الساحة التي كنت ألعب بها مملؤة بالمطر، كنا عندما ننتهي من اللعب أمضي مع ابن جارنا ونشتري الكنافة ، كم أشتاق لتلك الأيام وكم أتوق للكنافة
وضع الأستاذ وديع ابنه على السرير بحركة انفعالية وأردف قائلا : تشتاق للكنافة ! هذا سهل ، الأن انزل للشارع واشتري لك الكنافة
-لا يا أبي إنهما تمطر بشدة ، غدا بعد عودتك من الدوام تشتريها لي
- بل سأشتريها الأن ، كلها عشرة دقائق وأعود ومعي الكنافة ، سأشتري لك كيلو من الكنافة
ارتدى الأستاذ وديع معطفه فقال له ابنه بهاء بحزن بالغ : أبي إن ثيابك ومعطفك متسخان جدا
فأجابه والده : نعم يا بني لقد تعثرت اليوم صباحا ووقعت على الوحل ، أرأيت يا بهاء لقد ساءت حالتنا بعد وفاة أمك ، رحمها الله ما كانت لترضى أن أخرج للشارع هكذا ، ولكن لا بأس سأطلب من جارتنا أم عمر أن تغسل لي الثياب ، أعرف أننا نثقل عليهم ولكنهم جيران طيبون، وبالمناسبة سأضع جوال أمك رحمها الله إلى جوار سريرك فإن احتجت شيئا اتصل بجارتنا وهي تأتيك
خرج الأستاذ وديع إلى الشارع ومضى بإتجاه بائع الحلويات وفي منتصف الطريق بدأ إطلاق رصاص شديد أعقبه سقوط بعض القذائف ، بدأ الناس يهرعون ويجرون وبدأت المحلات تغلق أبوابها ويمضي الناس سراعا ، كان الأستاذ وديع في منتصف الطريق ففكر هل يعود للمنزل أم يكمل مشواره لبائع الحلويات ، وبصورة جنونية قرر أن يكمل مشواره وما أن وصل للمحل حتى تفاجأ أنه مغلق كبقية المحلات التي أغلقت ففكر في نفسه أن كيف لم يخطر في باله أن محل الحلويات سيكون مغلق هو الأخر ، هم بالعودة للمنزل ولكن فكرة جنونية أخرى خطرت في باله ، لماذا لا أذهب لمحل الحلويات في الحي الثاني هو لا يبعد أكثر من ربع ساعة مشيا على الأقدام وصحيح أنه تحت سيطرة الجيش الحر ولا بد لكي أذهب إلى الحي الثاني أن أمر من أمام حاجز للجيش النظامي أولا ، ولكن بهاء سيكون مسرورا عندما أأتي له بالكنافة والأمر يستحق المتابعة
وبالفعل مضى الأستاذ وديع نحو الحي الثاني وقبل أن يصل إليه كان ينبغي أن يقف أمام حاجز للجيش النظامي وقد كان هذا ووقف الأستاذ وديع أمام الحاجز الذي ما أن وصل إليه حتى قابله رئيس الحاجز قائلا :
تعال لهون ولاك ، لوين رايح قرد ولاك
- والله يا سيدي رايح للحي التاني
- قراااد ، شو رايح تعمل عند العصابات المسلحة ، هنت منهم ولاك قرد
- لا والله يا سيدي أنا مالي منهم ، أنا أستاذ ومالي علاقة بالسياسة بس رايح اشتري من هناك كنافة
- ليش من قلة كنافة عندنا ولاك قرد ، وإلا الكنافة عندنا مو عاجبتك، عند العصابات المسلحة أطيب يعني وعبتشرشر سمنة
- لا والله يا سيدي مو هيك القصة ، بس ابني الله يخلي أولادكم اشتهى على كنافة وهو مصاب ورجليه مقطوعتين ، فما حبيت إني أخجله وذهبت للمحل اللي عندنا في الحي ورأيته مغلق ، فمشان هيك بدي أروح للحي التاني
- إيه بلا فلسفة ولك ، بدك تعملي ياها مسلسل مكسيكي ، هات لأشوف هلجوال اللي معك حتى نفتشه ونتأكد أنك مالك عميل للعصابات المسلحة
ناول الأستاذ وديع جواله لرئيس الحاجز الذي أعطاه لمساعده الذي بدوره أخذ يفتشه وهو يبتسم ابتسامة خبيثة وما أن أنهى تفتيشه له حتى قال لسيده :
الجوال سليم يا سيدي وهو مملوء بالأغاني الوطنية وواضح أنو صاحبه شريف وما هو من العصابات المسلحة التخريبية
هز رئيس الحاجز رأسه وقال للأستاذ وديع مبتسما : عفارم عليك وهلق حتى تثبت إنك مواطن شريف لازم تغني لنا أغنية وطنية ، هنت حافظ شي اغنية وطنية ولك قراااد
فأجابه الأستاذ وديع ، نعم يا سيدي حافظ أغنية وطنية ، ووقف الأستاذ وديع منتصبا ومد ذراعيه وأخذ يردد : ملايين ملايين السوريين جينا نعاهد عهد الله نفدي وطننا معك يا اسدنا ما نركع إلا لله
قهقه رئيس الحاجز ومساعدة كثيرا وبعد أن شبعوا ضحكا أشار رئيس الحاجز للأستاذ وديع قائلا :
نحن تأكدنا انك مواطن شريف لاغبار عليك ، وبدنا نخليك تروح للحي التاني حتى تشتري كنافة للمحروس ابنك ، بس بالأول لازم تدفع بطاقة
-بطاقة شو يا سيدي
-كل واحد بدو يمر لازم يدفع ألف ليرة
-ألف ليرة !!!
بس هذا مبلغ كتير كبير وأنا كل اللي معي ثلاثة ألالف ليرة بدهم يقضوني لأخر الشهر
-والله هي مو مشكلتي ، إما بتدفع ألف ليرة أو إنك مو مواطن شريف ومع العصابات المسلحة التخريبية
-لا يا سيدي بدفع
-عفارم عليك ، هلق انت مواطن شريف وهلق يالله انقلع
وبالفعل انقلع الأستاذ وديع ومشى مسافة فاصلة بين الحيين إلى أن دخل الحي الثاني وهناك رن هاتفه الجوال ، نظر للمتصل فإذا هو ابنه بهاء الذي بادره بالقول : أبي أين أنت لقد تأخرت ؟
-لا تقلق يا بهاء ، لقد كان محل الحلويات في حينا مغلق فذهبت للحي الثاني لأشتري لك الكنافة
-أبي لا تتأخر
-لا تقلق يا بني ، نصف ساعة وأكون في المنزل
ما أن وصل الأستاذ وديع للحي الثاني حتى راعه القصف الذي يطال الحي والطائرات التي تحوم فوقه والناس يهربون على غير هدى ويجرون سراعا ، أسرع الأستاذ وديع الخطا وألتجأ إلى زاوية وما هي إلا لحظات ووقف جانبه رجل سمين يلهث من الجري ويلتقط أنفاسه بصعوبة وقد انتفخت أوداجه غضبا ورهقا
بادره الأستاذ وديع قائلا :
مرحبا يا أخي أين أجد هنا بائع كنافة
نظر الرجل السمين للأستاذ وديع غاضبا وصرخ في وجهه وكأنه وجد فريسة سائغة لينفس شحنة الغضب التي في داخله وقال :
كنافة !!
تريد كنافة ؟؟
ماذا تفضلتم بئا سيدي ، كنافة ، ولا تريد بالمرة بائع كوكتيل وشوية عصير الكيوي حتى تهضم الكنافة
-يا أخي لا داعي لكل هذا الغضب ، أنا سألتك سؤال وصلى الله وبارك
- ولك يا أخي أنت ماذا أنت ، مجنون أنت ، الطائرات من فوقنا والقذائف من حولنا والرصاص يثناثر مثل حبات المطر فوق رؤوسنا وانت قاعد تسألني عن بائع كنافة ، اسمعوا يا ناس اسمعوا ، قال أين أجد بائع كنافة قال ، يعني على رأي المثل الناس بالناس والقطة في النفاس ، حل عني يا أخي حل عني ما ناقصنا مجانين
-لا يا أخي لا تظن بي الظنون وإياك أن تظن أني مجنون ، كل ما في الأمر ان ابني مبتورة قدميه وقد اشتهى على الكنافة ولم أجد كنافة في الحي الأول فجئت لأشتري له من عندكم كنافة
- يا رجل أنت ماذا تقول ، كنافة ماذا التي ستجدها عندنا ، نحن في هذا الحي لا نشبع الخبز حتى يكون عندنا بائع كنافة ، أساسا بائعو الحلويات تركوا هذه البلاد ومنهم من ذهب إلى تركيا ومنهم من ذهب إلى لبنان ومنهم من ذهب إلى بلاد الواق واق ، المهم أن يخلص من هذه البلاد ، على كل حال إذا أردت أن تشتري كنافة فعليك أن تذهب للحي الثالث الذي تسيطر عليه داعش هناك تجد عندهم كل شيء ولكنك ستمر قبلها على حاجز للجيش الحر
ترك الأستاذ وديع الرجل السمين الغاضب الذي كان يتبعه بنظراته الغاضبة ومضى نحو الحي الثالث وقبل أن يصل للحاجز رن هاتفه الجوال وكان المتصل ابنه بهاء الذي بادره ضاحكا:
أبي لقد تأخرت كثيرا
-لا بأس يا بهاء سأضطر أن أتأخر قليلا فأنا في طريقي للحي الثالث فلم أجد في الحي الثاني بائع كنافة
-أبي لا تتأخر أنا وأمي ننتظرك
- لن أتأخر يا بني ، لن أتأخر
أغلق الأستاذ وديع هاتفه وحدث نفسه قائلا : لا يا بهاء لقد أخطأت يا بني ، فمهما ساعدتنا جارتنا أم عمر فلا ينبغي أن تناديها بأمي ، فأمك لا يأخذ مكانها أحد ، وصحيح أن أبو عمر وزوجته يساعدوننا كثيرا ولكن لا يصل الحال أن تنادي جارتنا أم عمر بأمي ،وهذه ليست أول مرة تفعل ذلك ، حدثته نفسه أنه سيوجه هذه الملاحظة لبهاء ريثما يعود للمنزل بصحبة الكنافة وما قطع تفكيره إلا وقوفه أمام حاجز الجيش الحر الذي بادرهم بقوله :
السلام عليكم
-وعليكم 00لوين رايح
-والله رايح للحي الثالث
-للحي الثالث ، أممم ، لعند الإرهابيين التكفيريين ، اكيد انت واحد منهم
-لا والله مالي منهم ، أنا أستاذ مدرسة ومالي دخل بالسياسة
-عبتقللي مالك دخل بالسياسة ، هات لأشوف جوالك إذا كان لك دخل بالسياسة وإلا لاء
أخرج الأستاذ وديع جواله من معطفه وقدمه لرئيس الحاجز الذي أعطاه لأحد عناصره الذي أمسك به وعلى شفتيه ابتسامة خبيثة والذي بدوره قال لرئيسه بعد أن تفحصه : نعم أخي أبو الرعب ، الجوال نظيف ومليء بالأغاني الثورية وصاحبه واضح أنه مؤيد للثورة
ناول رئيس الحاجز الجوال للأستاذ وديع ولكن الجوال سقط أرضا فالتقطه الأستاذ وديع ودسه في جيبه بسرعة
وهنا قال له رئيس الحاجز : حافظ شي من الأغاني الثورية
-نعم حافظ الكثير منها ، وهنا وقف الأستاذ وديع منتصبا وفتح ذراعيه وأخذ يردد : بدنا نشيله لبشار بقوتنا القوية سوريا بدها حرية سوريا بدها حرية
قهقه رئيس الحاجز ومساعده ثم قال : واضح انك مواطن شريف ومالك منحبكجي ، وراح نخليك تعدي للحي التالت بس لازم قبل هيك تدفع ألف ليرة لدعم الثورة
-ألف ليرة !!؟؟
بس أنا ما بقي معي غير ألفين ليرة بدها تقضيني لأخر الشهر
-والله هي مو مشكلتي إما بتدفع ألف ليرة أو أنت منحبكجي
- لا أدفع ألف ليرة ، تفضل
ناوله الألف ليرة بحسرة شديدة ومضى للحي الثالث الذي لم يكن أفضل حالا من الحيين الأول والثاني ، وكان الطيران يقصف والقذائف تسقط هنا وهناك والناس تجري لاهثة ، وقف الأستاذ وديع بجوار أحد الشبان الذي كان لديه لحية خفيفة ويبدو عليه الوقار سأله الأستاذ وديع عن بائع للكنافة ، فنظر الشاب له نظرة متفحصة وأخذ يقلبه في عينيه رأسا وعقبا فبادره الأستاذ وديع قائلا:
يا أخي لا تظن بي الجنون ، ولا تغرك ثيابي المتسخة وسؤالي العجيب ، وشرح له الأمر وما الذي يدفعه للسؤال عن بائع للكنافة وما أن أنهى سؤاله حتى قال له الشاب :
لا حول ولا قوة إلا بالله ، انظر يا أخي مهما كان أمرك ، فإن كنت تريد بائعا للكنافة تراه في أخر الشارع وقبلها ستمر على حاجز للدولة
ودعه الأستاذ وديع بينما ظل الشاب يلاحقه بنظرات ملئها الحسرة والشفقة
عندما وصل الأستاذ وديع إلى حاجز الدولة كان هناك رجل واحد يقف على الحاجز عليه قسمات الصرامة والغلظة ، خاطبه الأستاذ وديع :السلام عليكم
-وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، من أين وإلى أين ؟
-والله يا شيخ أنا جيت من الحي الأول ومررت من الحي الثاني وجيت لأشتري كنافة
-جئت من عند الكفار ومررت بالمرتدين ، فهل أنت من هؤلاء أم من هؤلاء
-لا والله يا شيخ أنا مالي كافر ولا مرتد ، أنا مسلم ولله الحمد حتى أني حافظ كثير من الأناشيد الجهادية
ووقف الأستاذ وديع منتصبا ومد ذراعيه وأخذ ينشد : سنخوض معاركنا معهم وسنمضي جموعا نردعهم ونعيد الحق المغتصب وبكل القوة ندفعهم
صاح به الشيخ قائلا : ويحك يا هذا تتمايل مثل الغواني ، قف واثبت وكف عن الترنح ، هات اعطني جوالك لأفتشه وأرى ما فيه
مد الأستاذ وديع يده إلى جيبه وأخرج جواله وناوله له فقلبه بين يديه ثم قال له : أتسخر مني يا رجل ، تعطيني قطعة خردة ، هذا الجوال مكسور وليس فيه بطارية ولا بطاقة
تلعثم الأستاذ وديع ثم سرعان ما تذكر فقال لصاحب الحاجز :
لقد تذكرت يا شيخ ، لقد مررت بحاجز الجيش الحر وأعطيتهم الجوال ليفتشوه وهنيك وقع أرضا ولا بد أنه انكسر وسقطت منه البطاقة والبطارية
- ما أكثر كذبكم يا أهل الشام وتحايلكم ، أرني لأفتش جيبك لانظر ما فيه
مد صاحب الحاجز يده إلى داخل جيب معطف الأستاذ وديع وأخرج علبة دخان فاستشاط غضبا وبدأ يصيح :
دخان !!!!
تدخن أيها المأفون ، يا فاسق يا ماسق يا فاجر يا ناجر يا صفتك يا نعتك يا عدو نفسك وعدو الإسلام ، هلم معي إلى السجن
-لا يا شيخ أرجوك إلا السجن
-لا بد من السجن فالسجن مدرسة إذا اعددتها أعددت شعبا سهل الانقياد
-أرجوك يا شيخ فإنا عندي ابن صغير مبتورة قدماه وأمه متوفية وما بيقدر يبقى لوحده
-لقد حزت على عطفي فلن اذهب بك إلى السجن ، هذا حتى تعلموا أننا لسنا قساة القلب كما يدعي خصومنا وعليه فسأستعيض بالسجن بالغرامة فهلم وادفع لي ألف ليرة غرامة لتدخينك السجائر
-بس يا شيخ أنا ما بقي معي سوى ألف ليرة
-هذه ليست مشكلتي ، إما الغرامة أو السجن
- لا يا شيخ ادفع الغرامة
ومد يده وناول صاحب الحاجز الغرامة المالية ومضى سريعا فالوقت قد تأخر والشمس بدأت تميل للغروب وحدث نفسه قائلا: إن كنت قد فشلت أن أجلب كيلو من الكنافة لبهاء فلا أقل من أن أحضر له قطعة كنافة مما تبقى لدي من القطع المعدنية
من بعيد كان صاحب محل الحلويات يهم بإغلاق محله ولكنه لمح الأستاذ وديع يجري من بعيد فوقف يراقبه والألم يعتصره وأخذ يردد : لا حول ولا قوة إلا بالله ، اللهم الطف بالمسلمين
وما أن دخل الأستاذ وديع حانوت بائع الحلويات حتى بادره البائع قائلا : تريد قطعة كنافة كالعادة
هز الأستاذ وديع رأسه بالإيجاب ، وألقى للبائع بالقطع المعدنية التي تبقت معه وأخذ قطعة الكنافة وخرج من الدكان مسرعا ونظرات البائع المشفقة تتبعه
عندما خرج من المتجر كانت الشمس قد غابت وزاد في عتمة المكان وتجهمه الغيوم الكثيفة والمطر الشديد ، وكان الأستاذ وديع يمشي وحيدا والناس قد ركنوا إلى بيوتهم ، فجأة رن هاتفه الجوال ، اقشعر بدن الأستاذ وديع ، لم يكن البرد هو سبب هذه القشعريرة التي سرت في جسده ، فقد اعتاد على البرد ، ولكنه تفكر كيف يرن هاتفه وهو خال من البطارية والبطاقة ، أخرج الجوال من جيبه بحذر وقلبه فإذ به خال من البطاقة والبطارية بالإضافة إلى أنه مكسور ، نظر فإذ الجوال يرن والمتصل ابنه بهاء أجاب على الاتصال بحذر فإذ ببهاء يبادره ضاحكا : أبي لقد تأخرت كثيرا
-بهاء 000بهاء 000أهذا أنت
-أبي متى ستأتي
-بهاء ما هذه الجلبة التي حولك
-أبي أنا أكلمك من جوال أمي وأنا ألعب بالدراجة
-بهاء ماذا تقول 00بهاء كيف تلعب بالدراجة00بهاء000بهاء أنت 00أنت مبتورة قدميك
-أبي أمي تقول أن علي أن أنام مبكرا لأستيقظ صباحا إلى المدرسة فلا تتأخر أريد أن أكل الكنافة قبل أن أنام
-بهاء بني هل تمازحني ، بهاء ماذا تقول أنا لست في مزاج يسمح لي بالمزاح
من بعيد هناك صوت يقول : قل له أن لا يتأخر العشاء سيبرد
-بهاء من عندك ، من يكلمك
-إنها أمي يا أبي
-أمك ؟ 000أعطني 000اعطني أمك
-أمي أبي يريد أن يكلمك
في هذه الأثناء كان من السهل أن تميز صوت دقات قلب الأستاذ وديع المرتفعة كدق الطبول ، وبالرغم من شدة البرد وغزارة المطر فقد كان جبينه يتقطر عرقا
- وديع أين أنت لقد تأخرت كثيرا كل هذا الوقت من أجل أن تحضر كنافة
- وداد 00000وداد 000وداد هذا أنت ، وداد أنت لم تموتي
- لقد تأخرت يا وديع وبهاء عنده مدرسة مبكرا فمتى ستعود ؟
اختنق صوته وتحشرج بالبكاء وقال لها : وداد أنت لم تموتي ، وبهاء لم تبتر قدماه ، وداد أنتما بخير ، وداد أجيبيني
- لا تتأخر سننتظرك على العشاء ولن ينام بهاء حتى تعود
- وداد أنت بخير وبهاء بخير 000وداااد

اكتفت وداد بالضحك وأنهت المكالمة
وقف الأستاذ وديع جامد لا حراك فيه وعبثا حاول أن يعيد الاتصال ولكن كيف والجوال لا بطاقة فيه ولا بطارية وهو محطم ، هنا بدأ يجري ، يركض ويركض ويركض محاولا أن يسبق الريح ليصل بأسرع وقت لمنزله ، ، تارة يسقط ارضا ويمتلئ معطفه وحلا فيقوم ليتعثر من جديد ويقوم ليتعثر من جديد ، لا أحد يعلم إن كانت الأرض تتلقى المطر أكثر أم دموع الأستاذ وديع أكثر فقد تسابقت دموعه والمطر إنهمارا ،بقي على هذا الحال ومر من أمام حاجز الجيش الحر ولم يلتفت لهم ولم يقف عندهم بل ظل يجري دون التفات والذين بدورهم لم يوقفوه بل نظروا لبعضهم وضحكوا بشدة مشيرين إليه وظل يركض حتى مر من أمام حاجز جيش النظام ولم يلتفت إليهم وهم بدورهم لم يوقفوه بل ضحكوا ضحكات هستيرية ، ودخل حارته واتجه مسرعا بإتجاه البناية التي فيها بيته ووقف أمام البناية ونظر إلى الأعلى بإتجاه بيته ، نظر إلى الأعلى 000إلى الأعلى 000إلى الأعلى 00حتى ألتقت عيناه 00000بالسماء
طأطأ رأسه وأعاد نظره إلى الأسفل ليقع نظره على انقاض البناية التي سقطت عن بكرة أبيها
جثا على ركبتيه وهو يلهث ثم انفجر بنوبة هستيرية من البكاء ، واستسلم لنوبة طويلة من العويل والنحيب ، وبقي على هذا الحال حتى امتدت يد وأمسكت بكتفه ، التفت بسرعة خائفا فإذ بجاره أبو عمر يقف بجواره ، جثا أبو عمر على ركبيته بجوارالأستاذ وديع وقال له :
أستاذ وديع ، ما هذا يا أستاذ ، ارفق بنفسك يا أخي 00انظر إلى أين وصلت وماذا فعلت بنفسك 00انظر إلى ثيابك وإلى هيئتك 00إلى متى يا أستاذ وديع 00إلى متى ستظل تسمح لهم أن يسخروا منك 00ويستغلوا حالتك 00كلما أعطاك أحد المحسنين مالا لتشتري ثيابا جديدة وتصلح من شأنك تمضي إلى أولئك الأفاكين الذين يسخرون منك ويسلبون منك مالك مع أنهم يعرفون حالتك 000إلى متى يا أستاذ وديع 00متى ستدرك أن زوجتك رحمها الله قد ماتت جراء سقوط الصاروخ في البناية وأن ابنك بهاء قدبترت قدماه ولم يحتمل الألم والمرض فمات بعدها بمدة وجيزة
نظر الأستاذ وديع إلى جاره أبو عمر بنظرات شاردة ملئها الحيرة والضياع : نعم لقد ماتت وداد ومات بهاء بعدها
- يا أستاذ وديع لست وحدك من أصابته هذه المصيبة ، ها أنذا أمامك ماتت زوجتي أم عمر وأولادي الخمسة في ذات التفجير ولم أفقد عقلي ولم أجن
- نعم 00صحيح 00لقد ماتت زوجتك أم عمر وأولادك وانهدم بيتك كما انهدم بيتي
- نعم يا أستاذ وديع ، ولقد زدت على ألمنا ألما بما حل بك ، أنت يا أستاذ وديع تفقد عقلك ؟
لقد كنت أعلم من في الحارة وكان الكبار قبل الصغار يستفيدون من علمك وحكمتك فماذا حل بك يا أخي وإلى متى ستظل على هذا الحال ، عد لنا يا أستاذ وديع فنحن بحاجة إليك ، نحتاج علمك وحكمتك ، نحتاج أن ترجع إلى عقلك ورشدك من جديد ، الحارة تنتظرك يا أستاذ وهي بأمس الحاجة إليك خاصة في هذه الظروف
هز الأستاذ وديع رأسه وأخذ يحدق في الأرض وهو يتكلم قائلا :
نعم لقد ماتت وداد ومات بعدها بهاء وكل من كان في البناية ماتوا وأصبحوا تحت الأنقاض
نظر الأستاذ وديع إلى جاره أبو عمر والتقت عيناهما وأكمل حديثه قائلا :
ما زلت أذكر ذلك اليوم في كل جزئياته ، كان بهاء يلعب بالدراجة ووداد تعد العشاء وفجأة قال بهاء أنه يشتهي الكنافة فقررت أن انزل واشتريها له وطلبت مني وداد أن لا أتأخر حتى لا يبرد العشاء وودعتها ضاحكا وكان أخر عهدي بها أنها ضحكت لي قبل أن أغادر ، وما أن نزلت للشارع وابتعدت قليلا حتى جثا الصاروخ اللعين فوق البناية واسقطها ، أتدري يا أبو عمر إني احسدهم ، احسد وداد وبهاء وأتمنى لو كنت معهم ، أتمنى لو مت في ذلك التفجير لكنت ارتحت مما أنا فيه الأن
انفجر الأستاذ وديع باكيا وربت أبو عمر على كتفيه بمحاولة يائسة للتخفيف عنه
ولكن الأستاذ وديع أبعد يد جاره بلطف وقال بلهجة تحدي:
أتدري يا أبو عمر أنت صادق فيما تقوله ، إن قتلوا الزوجات والأولاد وهدموا البيوت فلا يجب أن يقتلوا فينا روحنا وعقلنا
-احسنت يا أستاذ هذا صحيح
- كلهم مجرمون ، كلهم رقصوا على جثثنا وشربوا من دمائنا ، كلهم يدعون الدفاع عنا وحمل همنا وكلهم كاذبون لا يهمهم إلا مصالحهم فقط
- صدقت يا أستاذ ، صدقت ، عد لنا يا أستاذ ، عد لنا واصرخ 00اصرخ في وجوه الظلمة جميعهم 00اصرخ في وجه من يقتلنا باسم الممانعة والمقاومة واصرخ في وجه من يقتلنا باسم الحرية والثورة واصرخ في وجه من يقتلنا باسم الدين والخلافة 00اصرخ يا أستاذ في وجوه كل الظلمة والقتلة
-نعم يا أبو عمر ، إنهم جميعهم مشتركون في الجريمة ، يخوضون حربا ليست حربنا ونحن الذين ندفع ثمنها
-الله أكبر يا أستاذ لم اسمع منك هذا الكلام من زمن بعيد ، لقد عدت لرشدك يا أستاذ وديع
-نعم علينا أن نعود لرشدنا ، كفانا جنونا ، كفانا استكانة للظلم ، كفانا استسلاما للمذلة ، كفانا خنوعا وخضوعا لشياطين الشرق والغرب الذين جعلونا احجار شطرنج يلعبون فينا لعبتهم القذرة
-والله يا أستاذ ما فرحت منذ زمن بعيد كفرحتي بأن اسمع منك هذا الكلام ، مرحبا بعودتك يا أستاذ والحمد لله على سلامتك ، قم الأن فقد اصابك الكثير من المطر والتعب وهلم إلى غرفتك في المسجد حتى تأوي لها ، وغدا صباحا سنمضي سوية لشراء ملابس جديدة لك وما هي إلا أيام وتعود لمدرستك من جديد ، قم يا أستاذ والحمد لله على سلامتك
بعد أن أطمئن أبو عمر على الأستاذ وديع ومضى معه إلى غرفته المظلمة والصغيرة في المسجد التي يقطن بها منذ وقوع الحادثة أغلق الباب بهدوء وقابل خادم المسجد الذي سأله عن حال الأستاذ وديع فأجابه : أبشرك فقد عاد الأستاذ وديع لرشده
-الحمد لله لقد كنت أعلم أن ما يمر به حالة طارئة لا بد أن يبرأ منها ، فمن كان مثل الأستاذ وديع من الصعب أن يجن أو يستمر على هذا الحال
-الحمد لله منذ زمن بعيد لم نفرح وعودة الأستاذ وديع لعقله أمر يستحق الفرح والحبور
0000
في تلك الغرفة المظلمة والصغيرة كان الأستاذ وديع يغط بنوم عميق وقد تدثر بغطاءه بعد أن نال منه الجهد والتعب والمطر ، فجأة وبدون مقدمات فتح عينيه وجحظ بهما ورسم على شفتيه ابتسامة صغيرة وتمتم بصوت خافت وقال :
لاتحزن يا بهاء 0000لاتحزن يا بني 0000غداً سأشتري لك الكنافة
السلام عليكم