شماليات

مرحبا بكم في مدونتي المتواضعة التي أجمع فيها زبدة ما كتبته في الشبكة العنكبوتية كما وأنوه أن حقوق النشر والنقل محصورة لكاتب هذه القصص والمقالات ولا أحل أحدا أن ينقل شيء من دون ذكر المصدر والاشارة إلى كاتبها أبو ذر الشمالي

الثلاثاء، 1 مارس 2016

في عزاء عبد اللطيف


 

بسم الله الرحمن الرحيم
يرجى التنويه أن هذه القصة تحتوي على بعض النماذج والتصرفات التي قد تعد غير مقبولة شرعاً ، وسردي إياها لا يعني بالضرورة أني أتبناها
في يوم عزائك يا عبد اللطيف كان الجو بارداً والسماء متلبدة بالغيوم والجو كئيب ومظلم ، قطعت الطريق نحو دار العزاء بخطوات متثاقلة وبأ رجل قد أرهقتها السنون وتقدم العمر وألم فراقك يا صديقي الوحيد

كما تعلم فأنا لست معتاداً أن أسير لوحدي فلقد كنت رفيق دربي وكل مساء كنا نمشي سوية في ذلك الدرب الذي أكل من أقدامنا، أتذكر يا عبد اللطيف لقد كنت دائماً تحثني على المشي وتقول لي أننا بالمشي نبرهن أننا ما زلنا أحياء خاصة في السنوات العشرة الأخيرة عندما خرجنا على المعاش ولم يعد لدينا ما نفعله في هذه الحياة سوى انتظار الموت
ألم تكن هذه كلماتك يا عبد اللطيف ، يالله كم كان قلبي ينقبض من كلامك هذا وكم كان يكدرني ، ليس لأني أخاف الموت ، لاوالله ، فالموت علينا حق ، ولكني كنت أخشى أن أفقدك يا صديقي وهاقد حصل ما كنت أخشاه
سبعين سنة لا أذكر أن يوماً مر علي ولم أرك فيه ، منذ أيام الطفولة ، أتذكر أيام الطفولة ياعبد اللطيف ؟، أتذكر لما كنا نلعب ونلهو في الحارة العتيقة ؟، ونتسلق السنديانة الضخمة ونرتوي من النبعة ، لقد جفت النبعة ويبست السنديانة ، بل أن الحارة كلها اختفت من الوجود وتحولت إلى مجمعات تجارية ولم يبق منها إلا أشلاء ذكريات في وجداني ، حتى أنت يا حبيبي قد أصبحت من ضمن هذه الذكريات التي أقتات منها وبها أعيش ولكنها كالدواء طعمه مر ولكن لابد من تجرعه حتى أستمر في الحياة
أتذكر أيام المدرسة يا عبد اللطيف، كنا نجلس في مقعد واحد وبالرغم من أنك طويل القامة وأنا قصير ولكني كنت دائماً أتخلى عن المقاعد الأمامية وأجلس في المقعد الأخير بجانبك
حتى في الوظيفة ما كنا نفترق وكانت تضمنا غرفة واحدة، أربعين سنة في الوظيفة ما افترقنا، حتى عندما غضبوا عليك وجعلوك في قسم الأرشيف عملت المستحيل حتى يغضبوا علي أنا الأخر وينقلوني إلى الأرشيف
أه يا عبد اللطيف ، ليتك تركت لي مساحة بقربك وفي قبرك ، ليت خاتمتي كانت مع خاتمتك كما كانت بدايتي مع بدايتك
اعذرني يا صديقي إن بدأت العبرات تنزل مني، فقد كنت عاهدت نفسي ألا أبكي أمامك ولكن 000ولكن
أتدري لقد بكيتك أكثر مما بكيت على زوجتي التي توفيت من ثلاثين سنة ، مع أني كنت أحبها حباً جما ورفضت الزواج من بعدها
بكيتك أكثر مما بكيت على ابني الذي هاجر إلى بلاد الغربة وما عاد ليراسلني
بكيتك أكثر مما بكيت على أبي000لا أدري إن كان كلامي فيه شيء من العقوق ولكني بكيتك أكثر مما بكيت أبي
لاتتعجب فأنا لا أبالغ فأنت000أنت000أنت عبد اللطيف ؟!!
ما علينا، لنعد للحديث عن العزاء فقد قطعت الطريق بإتجاه بيت ابنك توفيق فلقد أقيم العزاء في بيته فهو ابنك البكر ولابد أن يكون العزاء في بيت الإبن الكبير
ولجت الباب وصادف دخولي مع دخول أشخاص لا أعرفهم ولكن يبدو أنهم مهمين جداً بالنسبة لأبنائك ، فقد قفز ابنك توفيق من كرسيه الذي كان يجلس عليه ولحقاه إبناك سعيد ومروان ورحبوا بهم أيما ترحيب ، أما أنا فقد00فقد صافحني أبنك الصغير سعيد ودفع بي إلى الداخل حيث جلست عند أول كرسي
أتعرف يا عبد اللطيف لقد كبر سعيد جداً وغط الشيب شعره ، سبحان الله كيف تمضي الأيام ، سعيد ابنك الصغير الذي كنا نحمله ونلاعبه أصبح ذو شيبة ، أما توفيق فلم يتغير علي إلا أنه قد أزداد سمنة وبدا منظره ولا مؤاخذة يا عبد اللطيف نشاز وهو يضع صبغة لشعره فاقعة السواد ويضع سيجارة في فمه لا يطفئها أبداً ويختتم بخاتم من ذهب
أما مروان فأنت تعرف كيف يضع نظارته ويبدأ بتفحص الناس من فوقها بنظرات ملؤها التفحص ، لاتنسى أنه محام والمحامون يحبون أن يتفحصوا كل شيء بسبب وبدون سبب ، ولكن الذي حيرني أنه تفحص الناس كلهم وجاء علي دون أن يعيرني انتباها ، حتى ولو بنظرة ، الحق معه يا عبد اللطيف فالناس في عزائك كانوا كثر وأكثر مما تتصور ، آه لو تعلم كم كان عدد المعزون فيك يا عبد اللطيف كثيرون ، كانت القاعة الكبيرة تكتظ بالحضور ولم يكن هناك موطئ قدم ، كلهم جاءوا للعزاء فيك يا عزيزي ، سبحان الله أنت الذي كنت تبقى أشهر لا يدق أحد بابك سواي وإذ بكل هؤلاء قد جاؤوا من أجلك ولكن بعد موتك وليس في حياتك
نظرت حولي وراعني عدد باقات الزهور التي جلبها المعزون من أجلك، أكاد أزعم أن كل واحد من المعزين قد سبقه إلى مجلس العزاء باقة من الورد ، إلا أنا ، فأنا لم أحضر ورداً ولعل هذا كان السبب في سلام أبنائك الباهت علي عند قدومي ، أرجو ألا تكون قد حزنت لأني لم أجلب لك باقة من الورود يا عبد اللطيف فأنت تعرف مصاريف الدواء والعلاج والراتب قليل وبالكاد يكفيني ، ولكن عزائي أني جلبت لك من فترة نبتة النرجس التي تحبها، على فكرة لقد رأيت مثلها تماماً عند دخولي للقاعة وحسبتها للوهلة الأولى أنها النبتة التي أهديتك إياها ، ولكن لا فتلك النبتة التي رأيتها عند مدخل بيت ابنك كانت يابسة والنبتة التي أهديتك إياها كانت خضرة مورقة
ولكن مهلاً ذلك الراديو أليس هو الراديو الذي كنا نسمع الأخبار منه ، نعم إنه هو عرفته من الضربة التي تلقاها في إحدى المرات عندما وقع من يدك ، ولكن ما الذي حل به ولم هو مركون هكذا وكأنه مهمل لا قيمة له ، ثم ما بال أزراره قد انتزعت منه ، يبدو أن يداً صغيرة قد عبثت به يا عبد اللطيف
ثم تعال هنا وأخبرني بما أن أولادك يعيشون في رخاء وفي رغد العيش فلم كنت تقترض مني دوماً أيها العجوز ، لماذا لم تكن تطلب منهم النقود
أمزح معك يا صديقي فحالي من حالك فأنا ابني تركني ورحل إلى بلاد بعيدة وأنت أبناءك تركوك وهم في نفس البلد
المهم أني ألتفت إلى الحاضرين لعلي أرى واحدا منهم أعرفه ولكن محاولاتي باءت بالفشل ، فلم أعرف أحداً من الموجودين ، يالله يا عبد اللطيف كم كبرنا ، لقد كبرنا إلى درجة بات من الصعب أن نرى أحداً نعرفه ، فأقراننا كلهم سبقونا ولم يعد هناك أحد سواي
على فكرة كان هناك مقرئ يقرأ القرآن بطريقة أشبه بالاستعراضية ، أنت تعرف أني لا أحب هذه الطريقة في قراءة القرآن وتعرف رأيي بالنسبة لهذا الموضوع فهناك فرق بين أن نتغنى في القرآن وأن نغني في القرآن، ولكني مع ذلك واحتراما للذكر فقد بدأت استمع ولكن الصوت لم يكن واضحاً مع أن مكبرات الصوت كانت تلعلع في الصالة ، فقد كان الناس وكأنهم في سوق أو في مجلس لهو ، صخب ولغب وكل أربعة أو خمسة قد تحلقوا حول بعضهم وبدؤوا في سرد الأحاديث ، في البداية كانت همهمات ثم علا الصوت وبدأ الضجيج ، تضايقت يا عبد اللطيف فالناس في عزاء وليسوا في مجلس سمر ، وخاصة أن هذا العزاء ليس لأي شخص ، إنه عزائك ، عزائك أنت يا عبد اللطيف؟؟!!
ولكن مهلاً فذاك شاب جلس بجانبي وهو لم يتجاوز الثلاثين من العمر قد جلس منكسراً حزينا وقد وضع يده على خده وقد أخذ منه الحزن والأسى كل مأخذ
قلت في نفسي الحمد لله أني رأيت أحداً يشاطرني ألم الفراق ومرارة الفجيعة، فها هو أحد الموجودين قد حزن عليك مثلي يا صديقي والحسرة بادية عليه ، وهممت أن أضع رأسي على كتفه ونجهش بالبكاء سوية أنا وهو عليك يا عبد اللطيف ، أو أن أخذ بيده ونخرج من هذا المكان المأفون الذي لم يحزن به عليك سوانا ولكن مهلاً
من هذا يا عبد اللطيف ؟ فأنا أعرف كل معارفك وهم قليلون وما سبق أن رأيت هذا الشاب من قبل ، ربما هو أحد الأشخاص الذين قدمت لهم معروفاً ، فكم من الأيادي لك على الناس يا عبد اللطيف
وفجأة صدر من جيبه صوت عجيب وإذا بهاتفه الجوال يرن ويبدأ بالكلام ويقول:
نعم يا خالد00نعم00لقد علمت بالأمر منذ ساعة تقريباً 00نعم00لاأدري كيف حصل هذا00 مصيبة يا خالد مصيبة لم أكن أتوقعها000يا أسفاه يا خالد يا أسفاه00لا أدري إن كنت سأستطيع أن أنام هذا المساء 00من وقت علمي بالنبأ والدمع لا يفارقني00نعم00كيف خسر النادي بهذه الطريقة المخزية00ومع من00من فريق من الدرجة الثانية00لابد أن في الأمر إن00الحكم يا خالد الحكم00الحكم هو السبب000اسمع يا خالد أنا هنا في عزاء والد أحد التجار الذين نتعامل معهم سأخرج منه إلى القهوة اسبقني هناك واطلب لي شيشة فقد آلمني رأسي من هذا الخبر وأريد أن أخرج من هذا الحزن الدفين
أطبق الشاب الهاتف ثم مضى خارجاً ، أما أنا 000أما أنا يا عبد اللطيف فقد ابتسمت 00ولا أدري كيف خرجت مني ضحكة خفيفة00ثم ما شعرت إلا وهذه الضحكة الملعونة قد انقلبت إلى قهقهة 000نعم لقد قهقهت في عزائك يا صديقي فلا تؤاخذني فلو أنك كنت معي لجلسنا نقهقه سوياً ، لم ينتبه إلى قهقهتي إلا رجل واحد نظر إلي بامتعاض وأشار إلي ملوحاً بسبابته قائلاً:
ويحك أيها العجوز أتضحك وأنت في مجلس عزاء ، ألا تحترم هيبة الموت ، ألا تخجل من الحاج توفيق إذا رآك وأنت تضحك في عزاء والده الموقر الحاج عبد الحميد
هنا ضحكت أكثر يا عبد اللطيف فالرجل حتى لا يعرف اسمك وجاء ليعزي فيك ، أتدري يا عبد اللطيف هؤلاء لم يأتوا ليعزوا فيك ، هؤلاء لا يعرفوك ، هؤلاء لايريدونك ، هؤلاء جاءوا من أجل أبنائك ، جاؤوا من أجل البوتوكولات
ها هم جماعة التجار قد تحلقت حول توفيق وقد ارتدوا أفخم الثياب ووضعوا في أفواههم أفخر أنواع الدخان وبرقت أصابعهم بخواتم الذهب وحديثهم كله منصب على التجارة
وهاهم المحامون قد تحلقوا حول مروان وقد بدأوا يتحدثون عن المرافعات والقضايا
وهاهم السمسارون تجمعوا حول سعيد وهم يتحدثون عن العقارات والبنايات
ولم يقطع كل هذا الصخب إلا المقرئ الذي قال : صدق الله العظيم
أول من انتبه إليه مروان الذي هرول إليه مسرعاً ولحقه سعيد وتوفيق وقالوا له :
إلى أين يا مولانا؟
فأجابهم وهو يصلح من شأن عمامته: لقد انتهيت اليوم ، سأرجع غداً
فأجابه توفيق: ولكننا اتفقنا أن تقرأ القرآن كله في ثلاثة أيام
- سأكمل غداً ولكن الأن عندي حفل زفاف سيبدأ بعد قليل ولابد أن أتعجل لأن علي الإنشاد فيه
فقال مروان: ولكن يا مولانا نحن اتفقنا أن تقرأ في كل يوم عشرة أجزاء وأنت لم تقرأ سوى جزئين
-كيف ذلك ؟ أنا قرأت ثلاثة أجزاء
ولكنك لم تنهي قراءة الأجزاء العشرة
-يا سيدي ابقى أكملهم بكرة
-ولكنك ستقرأهم كلفتة ونحن اتفقنا على أن تقرأهم بتلاوة موزونة وتقرأ القرأن كله
-لا ، نحن لم نتفق أن أقرأ القرآن كله
كيف ذلك لقد دفعت لك خمسة ألاف عداً ونقداً
لقد طلبت منك عشرة ألاف إذا كنت سأقرأ القرآن كله ولكنك أعطيتني خمسة
هذا غير صحيح
بل صحيح ، والدليل على ذلك0000000000000
وقبل أن استمع إلى الدليل نهضت من مكاني يا عبد اللطيف ، فأنا لا أحب الشجار كما تعلم ولا أحب أن أقف بين متشاجرين ، مضيت نحو الباب ومررت من أمام أبنائك الثلاثة الذين أخذ لبهم الخمسة ألاف والعشرة ألاف والجزأين والثلاثة والتلاوة والكلفتة ، حتى الحضور تركوا أماكنهم وانضموا إلى حلبة القتال مع أبنائك في معركتهم مع مولانا الشيخ الذي لم يكمل قراءة الأجزاء العشرة
أما أنا فقد خرجت من هذا المكان الذي أستحي أن أسميه عزاء دون حتى أن أقول لأبنائك أحسن الله عزائكم ، فهم غير منتظرين مني هذه الكلمة فهم أساساً لم يعتبروا أن عندهم عزاء ، هذا ناهيك أنهم لم ينتبهوا إلى خروجي فقد كانوا مشغولين مع الشيخ المقرئ
لاتؤاخذني يا عبد اللطيف فلم يكن عزائك عزاء ، بل كان عزائك أشبه بمسرحية لم يحسن الممثلون تمثيلها ولا المخرج إخراجها
ولكن عزائك يا عبد اللطيف أن عزائك في قلبي
والأن أستميحك عذراً يا صديقي فالسماء بدأت تمطر والجو هنا في المقبرة بارد جداً ، وأنت تعرف الروماتيزم قد نخر عظمي وما عدت كالسابق أستطيع أن أتحايل على البرد

سآتيك إن شاء الله كل يوم إلى أن يجمعنا الله في مستقر رحمته ، سآتيك هنا وسأجلس عند قبرك ، سأقرأ هنا القرآن ، لن أعدك أني سأقرأ لك عشرة أجزاء كل يوم ، لا 000، ربما لن أستطيع 000مع أني لو قرأت لك كل يوم ختمه لما وفيتك حقك
مع أنك لن تعطيني خمسة ألاف ولا عشرة ألاف بل أعطيتني أكثر من ذلك
أعطيتني حب 000وصداقة000وأخوة000 وذكريات000وملاعب الصبا000وسنديانة ونبعة وحارة قديمة000ومقاعد للدراسة ودرب مشيناه سوياً000000والأن ألم الفراق ودمع لا ينضب
يرحمك الله يا حبيبي
يرحمك الله يا عبد اللطيف
السلام عليكم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق